فداء عيتاني
حماسة كبيرة ستأخذ الشبان الملتزمين دينياً في الشمال، والوهابيين منهم خصوصاً. معركة تجري أمام أعينهم. ليست المعركة التي انتظروها ضد إسرائيل والأميركيين والقوات الدولية، إلا أنها معركة، بالنسبة إليهم، ضد ظلم يقع من سلطات لا تمثلهم، ولا تُعنى بمصالحهم وشؤون حياتهم، ففي أحياء مثل الزاهرية وغيرها، إضافة إلى أطراف المخيم، السلطة تساوي القمع، ومحاولة الجيش اعتقال مخلّين بالأمن، في نظر هؤلاء، «دليل» لمن لا يحتاج إلى دليل، على أن السلطة الوطنية اللبنانية هي «القمع في وجه الشبان الصغار والمتحمّسين».
إذاً وقع المحظور، وبدأ العد العكسي لمعركة أخرى وسلسلة من الاضطرابات، ملفّها سيكون أوسع من ملف الضنية ولا شك. كان يمكن، ببساطة، التكهن بأننا سنصل إلى هنا، لو ألقينا نظرة على طرابلس وحرمانها وأوضاعها السياسية المتشنّجة، ولو تحركت الجهات الأمنية لرفع ظلم اجتماعي لم يُعالج إلا بشعارات مثل «لبنان أولاً»، أتت بمن أتت به انتخابياً، وأدت إلى ردة فعل لم يُرِد أحد أن يصدّق إمكان حصولها.
المجموعات القتالية من المراهقين والشبان اليافعين الوهابيين تفوق قدرة أي تنظيم مسلح على استيعابهم. وفق قانون العرض والطلب فإن العرض يفوق الطلب، والحاجة هي إلى توفير إمداد لوجستي بسيط لتجميع هذه المجموعات وتنظيمها وتحريكها، والمحرك ليس فقط «فتح الإسلام»، بل هو واقع لا يسمع صوت الفقراء ولا الضعفاء، وتأتي أطروحات تنظيم «القاعدة» لتشير إلى الضوء الوحيد المتاح أمامهم: القتال من أجل الوصول إلى الجنّة، ورفع الضيم عن البلاد العربية.
تجد القوى الأمنية نفسها وحيدة في المعركة: لا خدمات اجتماعية، لا ماء ولا كهرباء، ولا أعمال ولا وظائف، ولا ضمانات بسيطة لحياة مئات الآلاف من السنّة في طرابلس وعكار وفي المخيمات الفلسطينية. المطلوب هو ضبط الأمن، فتغرق هذه القوى في محاولة الاستعاضة عن كل أجهزة الدولة بالبندقية، ويأتي الحل الأمني لمشكلات تبدأ من طبيعة النظام السياسي في لبنان، وحكم المركز الجائر على الأطراف البعيدة، والإهمال المستمر منذ عقود، واستبدال الإقطاع بشعارات «الحقيقة» و«من أجل لبنان»، قبل ترك المنطقة وأهلها يغرقون في الإهمال وفي الأقراص المدمجة التي تحفظ رسائل تنظيم «القاعدة» إلى كل العالم، ودعوات «الشيخ» أسامة بن لادن إلى القتال والجهاد دفاعاً عن «بلاد المسلمين التي تتعرض لغزوات صليبية».
يمكن التكهّن بسهولة بالتحليلات التي ستُعطى ووجهات النظر التي ستُقدم حول ما حصل في الشمال، وطبيعة المعركة وأسبابها وخلفياتها، إلا أنه لا يمكن استشراف وجهة الحل والإصلاح هناك. ثمة ما ينكسر، وإصلاحه لن يكون كما حصل مع الضنية بداية عام 2000. وإذا كانت تلك المعالجات تعدّ ضمن الإصلاح، فإنه لم يتعلم أحد أو يسمع أيّما شيء من معاناة سكان الشمال الذين اعتقدوا، للحظة، أن الحل يأتي من طريق المحكمة الدولية قبل أن يستفيقوا على أنفسهم في السجون بعدما لبّوا دعوات مرجعياتهم إلى التظاهر دفاعاً عن نبي الإسلام في الخامس من شباط في الأشرفية، وبعدما تُركوا بمفردهم في المستشفيات بعد إصابة الشبان اليافعين في اشتباكات كانون الثاني مع أبناء جبل محسن من العلويين، وهم، أي الشبان اليافعون، لطالما سمعوا تحريضاً مباشراً وملتوياً على المذاهب الإسلامية الأخرى من مرجعيتهم التي احتشدوا لإظهار حجمها الطبيعي في 14 آذار عام 2005.
يروي مصدر بارز في الشمال أن كل ما حصل هو عملية أمنية، ويعطي تفاصيل أمنية لعملية السرقة واحتجاز الرهائن والمطاردة واكتشاف السيارة التي استخدمت في عملية السطو ومتابعة المعلومات من المعتقلين، وصولاً إلى محاصرة بعض المشبوهين الذين هددوا عبر الوسطاء بضرب الجيش اللبناني في حال استمرار الحصار.
ويأسف المصدر لموقف تنظيم «فتح الإسلام» وردة فعله التي يصفها بـ«الكارثة»، مشيراً إلى ان التنظيم لا يقاتل إسرائيل هنا، ولا يحق له الدفاع عمّن قام بعمليات سلب وسرقة، لافتاً إلى أن المتاجرة السياسية والحديث عن المحكمة الدولية أمر معيب وسط جريمة مشابهة، وبدل العمل على تسجيل النقاط بين فريقي 14 آذار و8 آذار، كان يجب وضع المسألة في إطارها الأمني المحض.
لكن ما جرى كان مفاجئاً للعديد من المتابعين السياسيين في طرابلس. لم يكن ثمة توقّع لقدرة «فتح الإسلام» على العمل من المدينة نفسها، والوصول إلى الطريق العام في القلمون. ويقول هؤلاء إن هذه القدرة المفاجئة تمنعهم من التكهّن، إلا أن، ومن مسافة 30 متراً من مقر الاشتباك المركزي في الزاهرية، ثمة من يعرف، تماماً، أن «فتح الإسلام» تمتلك قدرات قتالية معدّة سلفاً في طرابلس، وليست هذه القدرات فلسطينية فقط بل لبنانية محض، وهي فرق ومجموعات صغيرة منعزلة بعضها عن بعض، ولدى عدد من قادة «فتح الإسلام» اللبنانيين (غير المعلنين) القدرة على إدارة معركة طويلة وقاسية في عاصمة الشمال، وحسم الأمور اليوم في طرابلس، كما تقول مصادر شمالية، لا يعني انتهاء وجود المجموعات المسلحة.
وتعتبر مصادر قريبة من «فتح الإسلام» أن دعاية التنظيم السياسية تفيد بتعرّضها لمحاولة تصفية، وعلى نقيض حديث قيادة الجيش والمصادر الأمنية اللبنانية، ثمة من يعتبر «أن تنظيم السنّة في لبنان وإعلاء كلمتهم هو المستهدف، وبعد مراكمة كل العوامل فإن هذا الصوت والمنطق يلقيان قبولاً بين الطرابلسيين والشماليين، والجولة الحالية من القتال قد لا تكون الأخيرة»، إلا إذا كان ثمة من يعتقد صادقاً بأن كل ما يحصل هو مؤامرة لإطاحة محكمة دولية تقترب من الإنشاء!