جان عزيز
من المجدي على ما يبدو توجيه نصيحة مجانية إلى بعض المغالين في «تقديس» ذكر الرئيس الراحل رفيق الحريري. ذلك أنهم يوجّهون إليه في واقع حضوره السياسي المستدام اليوم، إساءات، أو تساؤلات على الأقل، غير مقصودة طبعاً، وغير مطلوبة بالتأكيد.
سياق الحديث والنصيحة، ما رافق أحداث طرابلس أول من أمس، وبعض ما سبقها. وأساس الحديث احترام بعض المحرّمات المفروضة في واقعنا، ومنها أن الموت يمحو كل ما سبقه!
ومن مداخل النصيحة الممكنة، كلام مثلاً لرئيس الحكومة فؤاد السنيورة، قبل أيام، عن أن «رفيق الحريري وأنا لم نكن يوماً مع التمديد لا للرئيس الهراوي ولا للرئيس لحود». فيما العودة إلى أرشيف صيف 95، تظهر شبه احتفالية حريرية بإمرار التمديد الرئاسي الأول، لم يغب عنها السنيورة نفسه. كما العودة إلى أرشيف أيلول 2004، تظهر كيف أن السنيورة شخصياً لم يحتمل غيابه دقائق قليلة عن جلسة مجلس الوزراء التي طلبت التمديد لإميل لحود. فتولّى الحريري الراحل الاعتذار عن تأخّره وتأكيد حضوره، قبل أن يصدّق الكلام بالفعل، فوصل وزير مالية عهد الوصاية ليشارك موافقاً في الجلسة التاريخية.
ومع ذلك قد يكون السنيورة في كلامه الأخير صادقاً أو مصيباً. غير أن جدلية الحقيقة أو عكسها في هذا المجال، تفتح المنطق على تساؤل من اثنين: صدقية المواقف المتخذة بالحماسة نفسها اليوم، أو شجاعة المواقف المتخذة في حينه. والسمتان ضروريتان لطراز رجل دولة، فما جدوى أن يكون صادقاً اليوم ومتخاذلاً بالأمس، أو شجاعاً في حينه ومتقلّباً متلوّناً الآن.
ومن مداخل النصيحة نفسها أيضاً، كلام آخر لوزير الإعلام غازي العريضي أول من أمس، على موقف الحريري الراحل من أحداث الضنية في اليوم الأخير من عام 1999. مفاد الكلام أن الحريري وقف يومئذ مع السلطة في وجه مرتكبي الأحداث. وهو ما استمر طيلة الأعوام التالية، وخصوصاً بعد عودة الحريري إلى سلطة الوصاية نفسها عقب انتخابات الألفين وقانونها الشهير. فعلى مدى أربعة أعوام ونيّف لم تصدر عن الرئيس الراحل كلمة واحدة تنمّ عن اعتقاده بظلم واقع على موقوفي تلك الأحداث، أو تجنٍّ أو تركيب ملف أو تلفيق حكم. تماماً كما تعامل مع كل ملفات تلك الفترة، من نفي ميشال عون إلى اعتقال سمير جعجع. حتى إن وزير داخليته آنذاك، إلياس المر، لم يجد حرجاً في الإسهاب كيف تم التعامل مع تلك الأحداث، وكيف اعتقلت قرى بكاملها، وملئت الشاحنات بالموقوفين، وكان الحريري مصدّقاً مغطّياً.
فقط في تموز 2005 صار الملف، الذي تحدّث العريضي عن تأييد الحريري الأب لمضمونه، مثار شكوى ظلامة وتظلّم من الحريري الابن، دفعته حميّته إلى فرض معالجته بقانون عفو، يسبق تحرير سمير جعجع، وقيل إنه يشرطه، وتوّجته مروءته بدفع التكاليف اللازمة لإنجازه وإخراج موقوفيه. فهل كان الأب مخطئاً فأصاب الابن؟ أم العكس صحيح؟ أم هي مجدداً جدلية الشجاعة والحقيقة، مطروحة إزاء تصرف الاثنين؟ومن مداخل النصيحة نفسها أخيراً، ما حدث في طرابلس والشمال أول من أمس، وما قاله النائب سعد الدين الحريري شخصياً.
بدايةً ليس بإمكان عقل لبناني أن يتصوّر نفسه مدافعاً عن النظام السوري في لبنان. ولا جدوى ولا نيّة أصلاً، لدحض مساعي الأخير للعودة إلى دوره اللبناني السابق، وبالتالي اتهامه الدائم بمحاولة زعزعة الوضع الأمني في «محافظته» السابقة و«السليبة» مرتين. كما أن دأب نظام دمشق على توسّل «الأصولية السنية» مدخلاً إلى ذلك، أو فزّاعة لتحقيقه، بات موضع تأكيد دولي. من العراق ومثلث التفجّر السني هناك، وصولاً حتى بيروت ودمشق نفسها. ومقال بهجت سليمان في أيلول 2003 دليل واضح، وتحقيق ألكسندر أدلر عن الموضوع غداة اغتيال الحريري، لا يزال مرجعاً لكل باحث.
غير أن ذلك كله لا يعفي الحريري الابن من السؤال: هل ساهمت السلوكية الحريرية منذ أيار 2005 حتى اليوم، في إذكاء هذا المناخ الأصولي؟ أو هل نجحت تلك السلوكية في إخماد الموجة السنية «القاعدية» القارعة باب الوطن اللبناني؟
أي أثر في هذا السياق تركه الخطاب الانتخابي للحريري الابن في مناطق الشمال، وفي المنية تحديداً، حيث استجلب مقولة «المؤمنين حجاج بيت الله»، إلى صناديق الاقتراع؟
وما كانت تداعيات قانون العفو بعد أسابيع قليلة على تلك الانتخابات، وخصوصاً في مناطق الضنية ومجدل عنجر ومحيطيهما؟ وكيف كان الانعكاس العملي في الأوساط السنية الأصولية، لتعاطي السلطة الحريرية مع غزوة الأشرفية في 5 شباط 2006؟ كي لا يعود البحث هاهنا إلى كيفية تنظيم تلك الغزوة والجهات المنظّمة والتمويل والتعبئة والنقل والحشد؟
وما هي النتائج المتوقعة لعودة أصوات سنية حريرية متشددة، من مواقع روحية ومقامات مرجعية فاعلة في الغرائز والمخيّلة الجماعية؟
وهل رصد المعنيون آثار المواقف الحريرية المتخذة إبّان حرب تموز الماضي، على الساحة السلفية في لبنان، وصولاً إلى المسلك السياسي والمذهبي العام الذي تلى تلك الحرب؟
وما معنى أن يتحدث سعد الدين الحريري من السرايا الحكومية أول من أمس، عن «أهل السنّة»، في وقت متزامن مع تأكيد «فتح الإسلام» أن هدفها هو نصرة «أهل السنّة» بالذات؟
وهل يعي الحريري الابن أي صورة لبنانية، وسنية تحديداً، يبعثها حيّة، باستذكاره «فتح أبو عمار»، فيما مفتي الجمهورية اللبنانية، يوجّه رسالته؟
أسئلة هي برسم النصيحة لذكر الحريري الراحل، بعيداً عن الذهاب مذهب سيمور هيرش الشهير. وخصوصاً أن نجم مجلة «نيويوركر» يكاد ينجز بحثه الجديد. وهو بحث تجدر النصيحة إلى المعنيين بأن يبدأوا بتحضير ردودهم النافية له، قبل صدوره الوشيك.