إبراهيم الأمين
لم يكن هناك أصلاً من شك في أن من يقف خلف الأحداث الأخيرة هو واحد من اثنين: إما غبي لم يتعلّم من دروس الماضي ومن أحداث الخارج القريب، وإما متورّط في خطة تهدف الى نقل لبنان سريعاً الى موقع المواجهة الشاملة بقصد تعديل جدول الأعمال الداخلي والخارجي. وكل تدقيق في المعطيات يفتح الأعين على أمور كثيرة، من دون أن يرمي بالملف كله في سلة المؤامرة على شدتها وعلى حنكة من يشرف عليها في الخارج.
فقد بات معروفاً أن التنسيق الذي قام بين أجهزة أمنية عدة في شأن ملف «فتح ـــــ الإسلام» كان يسير باتجاه خطوات معينة، لكن حصل فجأةً أن تفرّد فرع المعلومات في قوى الأمن الداخلي بخطوة تنفيذية كشفت عن ثغر كبيرة: أمنية وعسكرية وسياسية، ما رفع منسوب الشك في أصل الخبرية نفسها. حيث تبيّن لاحقاً أن رئيس الفرع المقدم وسام الحسن قد أقر في الجلسة الوزراية قبل أيام بأنه لم يكن على دراية بهذا الحجم من الانتشار القتالي لمجموعات «فتح الإسلام»، وأنه كان على ثقة بأن هناك مطلوبين بارزين انتقلوا للإقامة في إحدى الشقق، ثم قال إن شقة اضافية لم تكن واردة في الخارطة الأمنية لجهازه. وكان هذا الكلام كافياً ليتهمه الآخرون من خصومه المهنيين والسياسيين، على حد سواء، بأنه سعى الى «قطف» ثمار جهد أمني مشترك، من خلال قيام جهازه بعملية دهم واعتقال لأحد أبرز المطلوبين في السعودية والولايات المتحدة من ضمن قوائم عناصر فارة من تنظيم «القاعدة»، وهو ربما كان في صدد تنفيذ عملية ناجحة وترك العمل على تسويق الأمر لبقيّة أقطاب 14 آذار وإعلامييهم على أنه عمل أمني ضد مجموعة تعمل في إمرة المخابرات السورية، وبعدئذ لا داعي إلى انتظار الكثير من الوقت، لأن «السياسة» الكويتية كانت جاهزة لأن تنشر محاضر تحقيقات وسيناريوهات أمنية تقود من جديد الى اتهام من يجب اتهامه بجريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري.
لكن المفاجأة ذات الخلفية الأمنية، دفعت الى خطوات أخرى، وعند هذه النقطة بدأت الأسئلة تنهال على الجميع. طلب الى الجيش المؤازرة، بينما كان جنوده عرضة لأهداف وكمائن مدرّب عليها سابقاً، وسط نقص في الاحتياطات والإجراءات الأمنية من حول المجموعات العسكرية المنتشرة في رقعة بإمكان المسلحين أن يعملوا فيها. وحصلت المذبحة التي راح ضحيتها عديد فصيلة في الجيش إن لم يكن أكثر، وما سببته من ضربة عسكرية ومعنوية ستلزم الجيش بخطوات اكثر قساوة لرد الاعتبار من جهة وإعادة رسم صورة ردعية تعرضت لاهتزاز قوي بعد الأحداث الأخيرة، وهي خسارة تتطلب جهداً كبيراً للتعويض عنها ولإعادة ترميم هذه الصورة في ذهن الجمهور وفي ذهن خصوم الجيش على حد سواء. وبدا أن الجيش قد تسلّم السلطة من دون أن يكون له حق القرار خارج إطار العملية العسكرية التي حددت جهات أخرى توقيت فتحها ولا يملك أحد توقيت نهايتها. وهو ما ظهر في مداولات سياسية جرت قبل الجلسة الشهيرة للمجلس الوزراي السياسي والأمني، والتي أظهرت رغبة قوية لدى قوى 14 آذار بأن يعمل الجيش من تلقاء نفسه وتحت ضغط الإهانة التي تعرض لها الى اتخاذ قرار بشن حرب مفتوحة ولو تطلب ذلك الدخول الى المخيمات. وهو أمر تنبّه إليه الجيش، ثم أبلغ قائده العماد ميشال سليمان الحاضرين بأن الجيش لا يرغب ولا يقدر على القيام بمهمة من النوع الذي يريده البعض. وسارع الوزير غازي العريضي الى ملاقاته في منتصف الطريق مشيراً الى أن البلاد في ظل الانقسام السياسي القائم حالياً ليس فيها من يقدر على اتخاذ قرار من هذا النوع.
لكن المشكلة لم تُحل، فلا الحكومة اتخذت قراراً بدخول المخيم، ولا هي طلبت الى الجيش ترتيب وقف سريع لإطلاق النار. ولجأ الرئيس فؤاد السنيورة الى مناورة من نوع آخر بقوله إن كل المرجعيات السياسية والإسلامية والحزبية رفعت الغطاء عن «فتح الإسلام»، وإن الحكومة تقوم بدورها بهذه الخطوة وهي تريد القيام بما يلزم لاستئصال هذه المجموعة، وإنه لا بد من إشراك الفصائل الفلسطينية في هذه المهمة، وهي الفصل الثاني من المناورة التي كانت ستقود حكماً الى نشوب مواجهات داخل المخيمات الفلسطينية نفسها من دون أن يثق أحد بقدرته على انهاء الأمر في وقت قصير، حتى قيادة «فتح» التابعة لرئيس السلطة الفلسطينية راجعت مواقفها الانفعالية الداعية الى انهاء هذه الحالة بأي ثمن. إذ انتبهت الى أن سلوكها السياسي هذا يطابق الحسابات السياسية الداخلية والإقليمية لفريق 14 آذار، وهو أمر لا يطابق واقع الحال الفلسطيني، قبل أن تتوالى الإشارات الى هذه القيادة بأن انفجار بقية المخيمات أمر وارد وسريع ما لم يتم التوصل الى وقف سريع لإطلاق النار، وخصوصاً بعدما بدأت أنباء المأساة القائمة في نهر البارد تصل الى بقية المخيمات. وهي مأساة غير مبررة بمعزل عن المسؤولية المباشرة لمجموعات «فتح ــــ الإسلام».
وفيما لم يقدر الجيش على انتزاع قرار سياسي بوقف النار او تغطية تتيح له التوصل الى تفاهم ولو مع ارهابيين، ومع فشل محاولات جهات لبنانية وفلسطينية في إقناع هؤلاء المسلحين بوقف إطلاق النار، بدت الصورة اكثر تعقيداً، ومرة جديدة تبيّن أن هناك من يريد اتساع المواجهة سواء داخل المخيمات او مع الجيش، علماً أن ما طلبه السنيورة من الفصائل الفلسطينية ليس له اي نوع من الترجمة، ولا سيما أن التوقيفات التي جرت لعناصر هذه الحركة، وهوية القتلى الذين سقطوا منها كشفت أنه ليس بين أفرادها إلّا قلة قليلة من الفلسطينيين، وأن الغالبية العظمى مشكّلة من لبنانيين ينتمون الى المناطق الشمالية، ومن جنسيات عربية بينها السعودية واليمن والأردن وتونس والجزائر ومصر. وهو الأمر الذي يشير مرة جديدة الى العلاقة الوطيدة ولو من باب التكتيك النظري بين هذا التنظيم وبين «القاعدة»، وخصوصاً أنه جرى نقل العشرات من المقاتلين العرب واللبنانيين الى العراق بعدما خضعوا لتدريب على يد فتح ـــــ الاسلام.
وحتى مساء امس، لم يكن بين القوى الرسمية اللبنانية من يملك تصوراً عن الواقع القيادي الفلسطيني في هذا التنظيم حتى يُصار الى الضغط عليه من جانب اهالي المخيم، علماً أن أبناء نهر البارد ظهروا امس في حالة من البؤس والمرارة التي تذكّر العالم بأن هناك شعباً وحيداً ليست له دولة ولا نصير.
الأمر الآخر يتصل بالحضور الأمني لهذا التنظيم خارج المخيم، وهو الحضور الذي تملك بعض الجهات الأمنية الرسمية معلومات عنه، لكنها ليست من النوع الذي ينفع للقول بأنه لا يمكن تحريك مثل هذه الخلايا النائمة للقيام بأعمال تخريب تلف كل لبنان.

الجزء الأول | الجزء الثاني | الجزء الثالث