إبراهيم الأمين
لم يراعِ السفير السعودي في لبنان عبد العزيز خوجة حلفاء المملكة في لبنان بإعلانه أن القتلى السعوديين في صفوف «فتح الإسلام» هم من عناصر «القاعدة». أفسد خوجة طبخة الفريق السياسي والأمني والإعلامي لـ14 آذار. أنهكنا هؤلاء في وصف مجموعات «فتح الإسلام» بأنها من «مخلّفات الاستخبارات السورية» ولا صلة لها بتنظيم «القاعدة»، وأفرادها هم من الفلسطينيين الذين جاؤوا من مخيمات سوريا، ومن التحق بهم في طرابلس ومخيمات الشمال إنما هم أيضاً من الفريق نفسه. ويوم أوقفت السلطات الأمنية مجموعة من السعوديين المطلوبين وفق مذكرات دولية، جهد فريق 14 آذار نفسه، وبأدواته الأمنية والسياسية والإعلامية نفسها، للقول إن هؤلاء ليسوا جزءاً من هذا التنظيم، وإنهم تعرضوا للغش، إذ إن هدفهم هو الوصول الى العراق، لكن قيادة «فتح الإسلام» أرادت تشغيلهم في أمور إرهابية أخرى. إلا أن الجميع اكتشفوا، بعد وقت قصير، أن هذه المجموعات تربطها صلة نسب عميقة بالتنظيم الدولي الذي يتمتع بشعبية حقيقية بين سنّة لبنان، بمعزل عن موافقة هذا أو إعجاب ذاك.
وإذ يجهد فريق 14 آذار، وفي مقدمه مجموعة سعد الحريري، في طمس بعض الحقائق ومنها ما يتصل بالدورين الأردني والسعودي في منع احتواء مبكر لهذه المجموعات، فإن الفضائح المقبلة ستتصل بالكشف عن المعلومات التي كانت في حوزة هذا الفريق حول ارتباط «فتح الإسلام» بالحركات السلفية الجهادية التي تشكل الخزان البشري لتنظيم «القاعدة». وثمة تقرير، أُخفي لدى جهاز أمني رسمي، يعطي فكرة عن النقاش الذي دار بين الكوادر القيادية لهذا التنظيم بعد الانشقاق عن «فتح الانتفاضة»، والخلاف حول تسمية التنظيم، بين إعلان انتسابه العلني الى «القاعدة»، أو اختيار ما يوسّع هامش المناورة الذي احتاج إليه هذا التنظيم لبناء نفسه.
أكثر من ذلك، هناك العشرات من البرقيات الأمنية حول النمو السريع لهذا التنظيم وعدم اكتراث النافذين من القوى الأمنية الرسمية للأمر. ومهما تعنّت الرئيس فؤاد السنيورة، ومعه بطل حفلة شاي مرجعيون أحمد فتفت، ومساعده لشؤون لعب الورق وليد عيدو، في الهروب من قيام لجنة تحقيق رسمية في الأحداث القائمة، فإن كل المديح الذي يكيله أهل البيت بعضهم لبعض من قريطم والمختارة وبزمّار الى باريس وواشنطن والرياض وعمان والقاهرة، لن يفيد في التغطية على الأزمة التي انفجرت بين أيديهم، والتي جاءت بأسرع ما ظن هؤلاء على مستوى القاعدة الشعبية التي باشرت مراجعة قد تطول حول الوجهة التي يسيرون بها. ولن يفيد هنا كل «التصويب» الآتي من «القوميين العرب» المرتدّين الى أحضان طوائفهم الصغيرة.
وبما أن فريق 14 آذار، بكل تلاوينه، لم يعد مضطراً الى إخفاء انتسابه الى «الجبهة العالمية» لضرب قوى المقاومة أو الممانعة في العالم، فإن هؤلاء لا يفكرون سوى بعدو واحد رمزه في هذه المرحلة هو السيد حسن نصر الله. وهم يهربون كل الوقت من مواجهة واقعنا ووقائعنا، معتقدين بأن التعبئة الطائفية والمذهبية ستجعل أبناء المخيمات، كما أبناء الشمال، على أهبة الاستعداد لقتال «عميل المشروع الفارسي». ألم ينبّه رضوان السيد أركان هذا الفريق من أنه عندما يطلب من هذه المجموعات قتال «الشيعة الرافضة»، فإن الأمر يكون قد قضي بالنسبة الى الآخرين من «النصارى والدروز المشعوذين» على ما يقول أدب هذه الجماعات التكفيرية؟
ماذا كان ينتظر هؤلاء من قائد المقاومة أن يقول: هل كانوا ينتظرون منه إعلاناً بالالتحاق بركب مجانين لم يعد يهتم أي منهم ببقية العمر؟ أم كانوا يريدون منه السير في مشروع إنهاك الجيش حتى إنهائه؟ أم كانوا يريدون منه موقفاً أعمى يدفع بالفتنة المذهبية الى حدودها القصوى في بلد مقفل على نفسه؟ هل يريد فؤاد السنيورة ووليد جنبلاط وسعد الحريري وسمير جعجع، وكل عصابة الحكم القائمة، إقناع اللبنانيين والعسكريين وحتى جمهورهم بأنهم يخوضون الآن معركة الدفاع عن الجيش؟ أم هم يدفعون بالأمور نحو مواجهة تجعل الجيش بعد وقت قصير غير قادر على تولّي إشارات السير في العاصمة؟ وهل كان هؤلاء يريدون من عدو إسرائيل الأول أن يلعب معهم لعبة إدخال الفلسطينيين في دوامة عنف كالتي تدور الآن داخل الأرض المحتلة كرمى لعيون ديفيد ولش؟ أم سذاجتهم السياسية وعلاقتهم البنيوية القائمة الآن مع أميركا وحكومات التسلط والتخلف كانت ستبقيهم في دائرة أحلام اليقظة حول السلطة الدائمة التي ستطوّب لهم باسم شهادة رفيق الحريري؟ أم يخشون ساعة الاقتراب من لحظة الحقيقة في مصير التحقيقات الفعلية في جريمة الاغتيال التي تكشف عن تورط أركانهم السياسيين والأمنيين والإعلاميين في لعبة التزوير التي سببت هذا الكم من الموت والدمار؟
صحيح أن الجيش تعرض لاختبار دام، وأن قائده العماد ميشال سليمان لم يكن يرغب في أن يقول السيد نصر الله إن الدخول الى المخيمات خط أحمر. لكن قيادة الجيش تعي بقوة مشروع توريطها في لعبة تطيح المكانة التي احتلتها هذه المؤسسة طوال السنوات الماضية، وهو أمر جرت مناقشته بعمق لدى أركان المؤسسة العسكرية، وطرحت أسئلة كثيرة عن الأسباب الحقيقية لمنع تقويض بناء هذه المجموعات الإرهابية خلال العام الماضي، وعن سر الظهور الكثيف لعشرات المسلحين من أنصار فريق 14 آذار في الأيام الماضية بحجة المساعدة في الدفاع عن الجيش، وعن الآلية التي أتاحت لـ«فتح الإسلام» الحصول على هذه الكميات الكبيرة من الأسلحة الحديثة والذخائر الكبيرة، وعن الحركة الأمنية التي أنتجت شبكة من الخلايا النائمة التي لا يعرف متى تستفيق وأين، وعن الأهداف الأخرى من وراء دفع الجيش الى بناء ساتر عسكري ــ بشري كثيف يضطره الى سحب الألوف من جنوده المنتشرين تحديداً في جبل لبنان وفي المناطق المسيحية التي تعمل «القوات اللبنانية» فيها بقوة تحت عنوان «الأمن الذاتي»، في وجه التحديات التي لا تعالجها الدولة والتي تصعب معالجتها بواسطة جيش منهك بلا هيبة وغير موجود، وعن الآليات التي تدفع نحو منح قوى الأمن الداخلي (بصيغتها القيادية وبوجهتها السياسية الحالية) الصلاحيات لتولّي الأمن في معظم المناطق اللبنانية. ويعرف الجيش التمييز بين أشكال الدعم العاجل التي تفتح فيها مخازن البارود القابل للاستخدام في وجه الداخل، ويمنع عنه أي سلاح يمكن أن يستخدم ولو ردعياً في وجه إسرائيل.
القائم حالياً هو عجز عن إنتاج فتنة فلسطينية ــ فلسطينية، وعجز عن جرّ الجيش الى قرار أحمق بدخول المخيمات، وعجز عن تحريك السنّة في وجه الفلسطينيين لمجرد أن غيرهم هو من ارتكب خطأ إيواء مجموعة إرهابية، وعجز عن إنتاج مناخ سياسي يعيد البلاد الى صوابها. لكن الأكيد أن غيظاً يمسك بصدور عتاة الجريمة في السلطة عندنا. والعبوة التي يعملون على تركيبها لن تنفجر إلا في أحضان من أتى بموادها... إنها مسألة وقت فقط!