عرفات حجازي
ليس واضحاً بعد كيف ستنتهي أزمة نهر البارد. فحتى الساعة كل اقتراحات الحلول سقطت، ما وضع الجيش أمام خيارين مكلفين: إما الحسم العسكري بكل ما يترتب عليه من تداعيات ونتائج، وإما تركه يستنزف في جبهة مفتوحة على خطوط تماس مع المخيم الذي اتخذ الإرهابيون سكانه دروعاً بشرية.
وإذا كانت قيادة الجيش قد حسمت موقفها سريعاً في التعامل مع مشكلة فتح الإسلام، رافضة الدخول في أي تفاوض معها، متمسكة بشرطيها اللذين تراهما ركني الحل، فإنها لن تتراجع عن حتمية تسليم القتلة وإنهاء هذه الظاهرة الإرهابية واستئصال مثيلاتها الغريبة عن أهل المخيمات وساكنيها.
إلا أن المأزق الذي يتحكم في اتجاهات الأزمة والخيارات المحددة لمعالجتها يخضع لعاملين أساسيين: الموقف الفلسطيني المربك إزاء مقاربة هذا الملف، والتباين بين الفصائل الفلسطينية المؤثرة في الآليات الواجب اعتمادها للتحرك لإنهاء تنظيم إرهابي لن يتورع أفراده عن تفجير أنفسهم داخل المخيم وبين المدنيين، ما يعني أن ثمة ضوءاً أخضر لم تعطه الفصائل لحسم عسكري لبناني أو فلسطيني داخل المخيم. فالفصائل لا تزال تتحرك ضمن دائرة المساعدة على معالجة المشكلة، وعلى قاعدة تسوية سياسية يتفق على آلياتها مع الحكومة وقيادة الجيش. لكن أي تسوية تلحظ تسليم سلاح التنظيم الإرهابي للمرجعيات الفلسطينية وتسليم المطلوبين، وخصوصاً مرتكبي المجازر بحق عناصر الجيش، تصطدم بأمرين: الأول أن «فتح الإسلام» ترفض الاستسلام، والثاني أنها لا تستجيب لشروط القيادة العسكرية اللبنانية التي ترفض أي حل خارج استسلام الإرهابيين وتقديمهم للمحاكمة.
أما العامل الداخلي اللبناني فإنه يزيد تعقيدات المشكلة، بحيث يصعب اعتماد أي حل في غياب الإجماع الوطني، وفي ظل انقسامات في النظرة إلى أبعاد وخلفيات ما يجري في الشمال وصعوبة عزله عن مجمل الأزمة السياسية الداخلية. وإذا كان فريق السلطة حدّد المعالجة في قرار اتخذه في مجلس الوزراء بإنهاء ظاهرة «فتح الإسلام»، تاركاً لقيادة الجيش مسألة الآلية التي ستعتمد لذلك، فإن المعارضة صاغت موقفها على قاعدة الفصل بين الجيش الذي عدّته خطاً أحمر ترفض المساس به وتحرص على هيبته ودوره ومعنوياته، والحكومة التي تتهمها بالارتجال والخفة والتسرع في اتخاذ القرارات غير المحسوبة، محذرة بلسان الأمين العام لـ «حزب الله» من اقتحام نهر البارد، واصفاًَ ذلك بالخط الأحمر، وإن عملية من هذا النوع ستكون تضحية بالجيش ولبنان والشعب الفلسطيني، محذراً من مخاطر تحويل لبنان ساحة قتال بين أميركا وتنظيم «القاعدة».
والسؤال المطروح في ظل التقديرات المتباينة سياسياً وعسكرياً لدى الجانب اللبناني كما الجانب الفلسطيني هو: أي مخرج سيعتمد للخروج من هذا المأزق الطارئ؟
شخصيات سياسية زارت قائد الجيش معزية بشهداء الجيش خرجت بانطباع بأن القيادة حاسمة في موضوع إنهاء ظاهرة «فتح الإسلام»، وهي لن تتهاون أو تتساهل مع هذه الطغمة الباغية مهما كانت الاعتبارات. فالذين غدروا بالجيش بعناصره وضباطه، وبالأخص الذين كانوا على الطرقات وفي مواقع بعيدة عن أرض المواجهة ولم يكونوا في مهمات قتالية، يجب أن يستسلموا بلا تردد. ولفت العماد ميشال سليمان زائريه إلى أن الجيش ضنين بالدم الفلسطيني كما بالدم اللبناني، وأنه على دراية كاملة بكل التعقيدات التي تحيط بملف المخيم. ويشدد العماد سليمان على وجوب أن تتراجع القيادات السياسية في هذا المنعطف عن مصالحها الضيقة وتبادر إلى تسوية جريئة تضع حداً للانقسامات وتعيد التماسك إلى النسيج السياسي والوطني، لأن قيادة الجيش ترفض من منطلق حرصها على الوفاق الداخلي أن تكون ضحية التجاذبات القائمة، داعياً إلى تغليب لغة التوحيد الوطني على لغة الشرذمة، لأن هذا هو السبيل الوحيد لمواجهة الإرهاب، ولأن الانكشاف السياسي يشجع على الاختراقات والاهتزازات الأمنية.
وبصرف النظرعن التخريجات السياسية لما حدث، وهل هو بإيعاز سوري، أم أن دمشق ستستثمره، أم كان الموقف غير ذلك تماماً، فإنه في النهاية يؤكد حقيقة لم يعد من الجائز التستر عليها، وهي أن التنظيمات الأصولية التي تعزز مواقعها داخل المخيمات وخارجها مستفيدة من الأزمة السياسية والانقسامات الحادة التي تعمّق الهوة بين القيادة اللبنانية تشكل خطراً داهماً لا بد من مواجهته قبل أن يستفحل ويؤدي إلى فتنة كبيرة لبنانية ــ فلسطينية أو لبنانية ــ لبنانية أو لبنانية ــ سورية. ولا يختلف أحد على أن العبث بأمن لبنان وتعطيل دور قواته المسلحة سيطيح السلم الأهلي الذي يشكل الجيش ضمانته الأساسية وعماد وحدته الوطنية.
وقد كان الرئيس نبيه بري على حق عندما أبلغ مهاتفيه، وبينهم خافيير سولانا وتيري رود لارسن ومنوشهر متكي وعمرو موسى، أن الحل يبدأ بتشكيل حكومة وحدة وطنية، بعدما تسللت أزمة «فتح الإسلام» عبر حالة الاستعصاء السياسي، وبالتالي ليس أمام لبنان من مخرج إلا بإقامة جبهة وطنية متماسكة تحصن ساحته من الرياح السوداء في وجه الهجمة «القاعدية» التي استفادت من تشرذمه وانقسامه.
ويحذر دبلوماسي عربي في دولة ذات دور مؤثر في مجريات الوضع اللبناني من أن الأحداث الأخيرة تنذر بأن لبنان مقبل على مرحلة خطيرة من الصدامات والفوضى والانهيار إذا لم تسارع قياداته إلى فتح منافذ الحوار لمعالجة الموقف، مستفيدة من اللحظة السياسية الراهنة حيث يتلقى لبنان دعماً غير مسبوق من أشقائه وأصدقائه، وخصوصاً من الدول الكبرى، وهذا ما يسعفه على تجاوز المرحلة بكل مخاطرها وتعقيداتها المحلية والإقليمية والدولية، والمضي قدماً في إزالة مسبباتها ومكوناتها. والفرصة لم تفت بعد لمعالجة جريئة تنهي حالات الصراع والقلق والخوف على المصير والمستقبل.