فداء عيتاني
مطــالــب متبــادلــة مستحيلــة و«المــوت أَولى مــن الاستســلام»

قبيل الثالثة فجراً، رنّ هاتف ضابط كبير في مخابرات الشمال في الجيش. المتصل: وسيط لطالما ساعد الجيش و«فتح الإسلام» على تجاوز محن وإشكالات كادت تُشعل الشمال. الموضوع: عملية دهم وحصار شقة لحلفاء «فتح الإسلام»، ومطالبة من زعيم التنظيم شاكر العبسي بفك الحصار وإلّا فسيتعرّض الجيش لهجوم.
«لا علاقة لنا بالأمر. ما نعرفه أن الدرك اتصلوا بنا وأبلغونا أنهم يتابعون شقة في شارع المئتين، قد تكون مسألة سرقة أو خلافه»، يجيب الضابطُ الوسيط المتصل.
الوسيط حريص على عدم المبادرة بالاتصال بـ«فتح الإسلام»، إذ يعلم أن هاتفه مراقب. وهو كُلّف رسمياً من جانب «جبهة العمل الإسلامي» فتح قناة اتصال مع التنظيم، بناءً على رغبة لبنانية، وبطلب من قيادة الجيش، وذلك قبل نحو خمسة أشهر مع بدء الأزمة بين «فتح الإسلام» و«فتح» التاريخية.
تابع الوسيط الأمر بين التنظيم الفتي من جهة وبين قيادته وقيادة الجيش من جهة ثانية، وتطلّب منه الأمر البحث عمّن يعرّفه إلى شاكر العبسي وقادة «فتح الإسلام» في المخيم. جرى اللقاء الأول مع العبسي، وقد تبعه 16 لقاءً آخر، في حضور أبو مدين (أحد القادة اليمنيين في المجموعة) وقادة سعوديين وأردنيين، بينهم أبو عبد الرحمن السعودي الشاب الهادئ القليل الكلام والمستمع الجيد.
منذ الجلسة الأولى التي استمرت خمس ساعات خلص الوسيط إلى أن لا تنظيم فعلياً يدعى «فتح الإسلام»، أو أن لا تنظيم يمسك بقيادته شخص واحد، بل ثمة تركيبات متعددة تشكّل كلها معاً ما يعرف خارج المخيم بـ«فتح الإسلام»، يمثّل العبسي أحد أبرز قادتها في نهر البارد. وهو محاور شخصي جيد ومقنع وهادئ وقابل للتفاوض والنقاش.
وعلى قدر هدوء العبسي وليونته وسيطرته على أعصابه، يبدو «أبو هريرة» (شهاب قدور) صعب المراس من غير اليسير التفاوض معه. و«أبو هريرة»، الذي ظهر في الشريط الذي بثته «الجزيرة» قبل يومين واقفاً خلف العبسي، قدم قبل شهرين الى طرابلس من عين الحلوة، حيث كان ضمن «عصبة الأنصار»، ومعروف عنه احترافه قيادة العمليات الحربية رغم أنه لم يتجاوز الـ35، ويتزعم تركيبة من المقاتلين إلى جانب العبسي، ويعدّ أحد أبرز أطراف «فتح الإسلام».
التركيبة الثالثة يتزعمها «أبو مدين»، وتضم بمعظمها مقاتلين من العرب الذين شاركوا في معارك ضد الأميركيين في أفغانستان والعراق وفي مناطق أخرى من العالم ضد قوى مختلفة.
أما التركيبة الرابعة فهي مجموعات من الملاحقين من الإسلاميين في لبنان، غالبيتهم مطلوبون للتحقيق من دون أن يسبق لهم التورط فعلياً في أيّ من الأعمال الناشطة ضد أيّ جهة. إلا أن هؤلاء، سواء أكانوا متورطين أم أبرياء، فضّلوا الالتحاق بمخيم البارد والانخراط في «فتح الإسلام» بدل التعرّض لما سمعوا عنه من صنوف التحقيق والتعذيب.
خلال جلسات الحوار بين الوسيط وقادة التنظيم سمع كلاماً هادئاً: أولاً، لا نية لاستهداف الجيش. ثانياً، لديهم ملاحظات على السياسة الإيرانية وعلامات استفهام حول «حزب الله»، إلا أنهم يرفضون إطلاق رصاصة واحدة على أي شخص يقاوم إسرائيل، وحين سألهم: «هل تتصلون بالقاعدة؟»، كان الجواب: «لا مشكلة لدينا في الانتماء إلى هذا التنظيم، لكن لا علاقة لنا به حالياً». وفوجئ الوسيط حين سأل عن علاقة «فتح الإسلام» بتفجير عين علق، إذ أتاه الجواب: «رسمياً لم نأخذ قراراً بذلك، لكن قد يكون أحد الإخوان تصرّف بمبادرة خاصة».

المفاوضات الإيجابية

رتّب قادة التنظيم جولة للوسيط على مواقعهم، وخصوصاً تلك التي طالبهم الجيش بإزالتها لكونها خارج المخيم، فيما اتهموا الجيش بمساعدة «فتح السلطة» بجرافاته على إقامة مراكز ومقارّ مقابلة لمواقعهم. وقبيل نهاية المفاوضات كان الوسيط قد كوّن فكرة عن التنظيم لم تخلُ من اندهاش من الجهوزية القتالية العالية لعناصر التنظيم، وهو يصفهم بأنهم «غريبون، وساعون إلى الشهادة، ويطيعون أمراءهم من دون نقاش، وذوو قدرة قتالية كبيرة جداً».
انتهت الأزمة الأولى قبل أشهُر، وبقي الوسيط، بطلب من قيادة الجيش و«جبهة العمل الإسلامي» على صلة بـ «فتح الإسلام» التي محضته ثقة كبيرة، وحين نبّه العبسي إلى أن أطرافاً لبنانية تسعى إلى توريطه وتوريط تنظيمه في الصراعات المذهبية في لبنان، أكّد له الأخير أن لا نية لدى التنظيم للتورط في الصراعات الداخلية المذهبية في لبنان، وطرح الوسيط إمكان تشكيل لجنة تنسيق من الجيش و«فتح» السلطة و«فتح الإسلام»، إلا أن الأطراف الثلاثة رفضت الجلوس بعضها مع بعض.
لم يُخف الوسيط على قيادة الجيش ومديرية المخابرات مشاهداته، ونصحهم بوضع استراتيجية للتعامل مع التنظيم، ليس بالضرورة عبر العنف، مشدداً على ضرورة إيجاد صيغة جدية وواقعية للتعامل مع تنظيم ناشئ وقوي، إلا أن هذا الكلام ذهب أدراج الرياح. ويضمّ الرجل ساعديه حين يتحدث عن «الفرصة الضائعة»، لتتحوّل الأمور إلى مجرزة ومطالب متبادلة مستحيلة.

اشتعلت

الثانية فجر الأحد في 20 من الشهر الجاري يستيقظ الوسيط نفسه على رنين هاتفه. كان شاكر العبسي على الطرف الآخر. للمرة الأولى لم يُجب الوسيط، وبعد المحاولة الثالثة أجاب ليسمع العبسي يقول له حرفياً: «لديّ مشكل، هناك مجموعة محاصرة في شارع المئتين، يطوّقها الدرك، وهم إخوة لنا (ما يعني أن الشبان ليسوا من «فتح الإسلام»، إلا أنهم يحظون بحمايتها، بحسب الوسيط) وأريد تأمين وصولهم إلى مخيم البارد. وإذا لم يصلوا فسنتعامل مع الجيش بقسوة».
يتّصل الوسيط بالضابط الكبير في مخابرات الجيش ليبلغه الرسالة. أجاب الضابط المتمرس بالعلاقة مع «فتح الإسلام» بأن «لا علاقة لنا». إلا أن الوسيط يلحّ، مؤكداً أن العبسي هدّد بتفجير الوضع، فأجاب: «ماذا يفجّرون؟ لا علاقة لنا ومن يفجّر الأمور سيتحمّل المسؤولية».
على خطّ آخر كان العبسي يبلغ وسيطاً آخر الرسالة نفسها، فأبلغ الأخير، الذي ينكر اليوم أي معرفة بأي من عناصر التنظيم أو قادته، قيادة قوى الأمن الداخلي بما سمعه.
بعد دقائق طويلة أعاد العبسي الاتصال بالوسيط اللبناني قائلاً: «اشتعلت. لقد هاجمنا قوات الجيش وقُضي الأمر». ولما سأل الوسيط، بهلع: «ولماذا الجيش؟»، جاءه الجواب: «لأنهم يحاصرون مجموعاتنا، وجرحوا لنا إخوة، ولن نوقف المعركة قبل استعادة الجرحى والأسرى».
بعد الهدنة اتصل العبسي مجدداً. كان يُقدّر أنه وقع في مأزق، وصرح بأنه لا يريد أي مواجهات إضافية مع الجيش، مضيفاً «نحن لا نستهدف الجيش لكن سعد (الحريري) ووليد (جنبلاط) و(سمير) جعجع هم أصل المشكلة، وهم من يحرّض ضدنا، نحن منفتحون للملمة المشكلة». وحين نقل هذا الكلام إلى قيادة الجيش كان الجواب حاسماً: «فليسلّموا أنفسهم والقضاء يحدد مصيرهم ولا حلول أو كلام غير ذلك».
حين أوصل الوسيط هذه الرسالة هاتفياً إلى العبسي، الساكن تحت قذائف الجيش، سمعه يجيب «الموت أَولى من تسليم أنفسنا».