نقولا ناصيف
في اليوم العاشر لاندلاع أحداث مخيم نهر البارد، توحي المعطيات المتوافرة عن اتصالات الساعات الأخيرة بانحسار خيار الحسم العسكري، ودخول الجيش و«فتح الإسلام» في استنزاف قد يكون طويلاً ومكلفاً لكل من حكومة الرئيس فؤاد السنيورة والمؤسسة العسكرية. وبات محور الاتصالات والجهود المبذولة، بعيداً من الأضواء، يفتش عن حل لمشكلة بدأت أمنية، ثم أصبحت عسكرية، وانتهت سياسية.
وتبعاً لتطورات الموقفين العسكري والسياسي، فإن مخيم نهر البارد أضحى أسير الوقائع الآتية:
1 ـــــ ما كشفته جهات واسعة الاطلاع ومتابعة عن قرب للأحداث الأخيرة، وهو أن ثلاث ساعات صفر قرّرها الجيش في الشهرين المنصرمين لاقتحام مراكز «فتح الإسلام» في مخيم نهر البارد للقبض على المتهمين بمتفجرتي عين علق في 13 شباط الفائت، صار إلى إلغائها في الدقيقة الأخيرة، بعدما تبيّن أن خيار الحسم العسكري محفوف بالأخطار، وقد لا يفضي إلى النتائج المتوخاة منه. وسرعان ما اقترح الجيش خطة بديلة من الاقتحام، أقل كلفة، تقضي بتنفيذ عمليات أمنية محدودة للإطباق على عناصر التنظيم الإرهابي ودهم مراكزهم واعتقالهم.
لكن المعلومات نفسها تحدّثت عن أن تنظيم «فتح الإسلام» أُخطِرَ بطريقة ما بما كان يُعدّ له الجيش عسكرياً، فأنجز في الأسابيع الأخيرة خطة معاكسة لهجوم مفترض، وأعدّ نفسه لهجوم مضاد. الأمر الذي كشفه، فجر الأحد 20 أيار، مؤشران: أولهما السرعة القياسية التي استطاع خلالها هذا التنظيم، وفي أقل من نصف ساعة، تصفية ما يزيد على 27 عسكرياً ذبحاً، وثانيهما أنه فسّر عدم مشاركة الجيش في الدهم الذي قامت به عناصر قوى الأمن الداخلي بأن ثمة ما يُخطط له الجيش على نحو منفصل، مستبعداً عامل عدم التنسيق بين الجيش وقوى الأمن الداخلي. فقاده ذلك إلى التصرّف مع الجيش على نحو مباغت ووحشي. وهو ما أبرزته أيضاً استعدادات «فتح الإسلام» لمواجهة لم تكن مفاجئة بالنسبة إليه.
2 ـــــ تطور غير محسوب على الموقف السياسي أضعف موقف الجيش وخياره في الحسم العسكري بعد انقضاء اليومين الأولين من تلك الحوادث، من غير أن يحظى بالغطاء السياسي الذي كان ينتظره. وكان قد طلب من مجلس الوزراء غطاءً سياسياً مزدوجاً: صدور قرار حكومي علني يفوّض إليه تنفيذ عمل عسكري بدخول مخيم نهر البارد والقضاء على «فتح الإسلام»، وسحب عناصر من الجيش الموزّع الانتشار في أكثر من منطقة لبنانية، في الجنوب وعند الحدود اللبنانية ــــــ السورية وفي الجبل وبيروت وفي محيط السرايا الحكومية أيضاً، بغية دعم قواته عند تخوم المخيم. إذ فيما تشبّث الجيش، منذ الساعات الأولى للحوادث، بالخيار العسكري تعويضاً عن الضربة القاسية التي باغته بها التنظيم الإرهابي، كانت السلطة السياسية تراهن على دور فلسطيني يواجه «فتح الإسلام» من الداخل. في حين أن ما رشح إلى مسؤولين لبنانيين عن الواقع داخل المخيم، تحدث عن 250 مسلحاً للتنظيم الإرهابي، انضم إليهم في الساعات التالية للعمليات العسكرية بضع عشرات من آخرين يطلبهم القضاء اللبناني، إلى بضع عشرات أيضاً من تيارات سلفية، بعضهم فلسطيني والبعض الآخر من جنسيات عربية أخرى، فأضحوا في ركاب «فتح الإسلام»، مما أحال أي هجوم محتمل على هؤلاء حرباً على المخيم برمته.
لكن الأبرز أيضاً في المواقف السياسية الأخيرة، جنوحها التدريجي نحو الحسم السياسي. وبعد الموقف الذي أطلقه الجمعة، في اليوم السادس لاندلاع الاشتباكات، الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله معارضاً الحسم العسكري ومتحدثاً عن خطين أحمرين هما: الجيش ومخيم نهر البارد، انضم إليه رئيس اللقاء الديموقراطي النائب وليد جنبلاط الأحد باقتراحه تسوية سياسية ـــــ قضائية للمشكلة. وكان في اليوم التالي لانفجار حرب الشمال قد طالب بالحسم العسكري، داعياً الفلسطينيين إلى عدم التساهل حيال هذا القرار. أضف ما ردّده رئيس الحكومة في الساعات الأخيرة عن استمهاله الخيار العسكري بإتاحة مزيد من الفرص للعمل السياسي. وهكذا بدأت الحسابات السياسية تتعارض مع الحسابات العسكرية التي يقول بها الجيش، بالفسح أمام تسويات لا تعوّض بالضرورة ما واجهته المؤسسة العسكرية في الأيام الأخيرة. علماً بأن أول مَن أطلق دعوة إلى حسم عسكري فوري، بعد ساعات على انفجار الأحداث، هو رئيس الغالبية النيابية سعد الحريري عقب اجتماعه بالسنيورة في السرايا الأحد (20 أيار).
3 ـــــ التحوّل في الموقف الفلسطيني من خيار الحسم العسكري. ووفق الجهات الواسعة الاطلاع، فإن حركة «فتح» التي أبدت، في الساعات الأربع والعشرين التي تلت انفجار الصدام العسكري، استعدادها للتدخّل وإنهاء ظاهرة «فتح الإسلام»، سرعان ما أبلغت إلى المسؤولين اللبنانيين تريّثها وتحبيذها حلاً سياسياً، بعدما بدا أن دخول مخيم نهر البارد يفتح الباب على ملف أكثر تعقيداً، هو دخول الجيش اللبناني مخيماً فلسطينياً في المطلق.
وانتهى الطرف الفلسطيني، بعد تجاذب بين فصائله، بالاصطفاف حول موقف موحد: عارض تدخّلاً فلسطينياً ضد «فتح الإسلام» داخل المخيم، وفي الوقت نفسه دخول الجيش إليه للقضاء على التنظيم الإرهابي. رسم الفلسطينيون سقفاً جديداً في تعاملهم مع المشكلة، هو أن حسماً عسكرياً لن يميّز بنتائجه السياسية بين «فتح الإسلام» والسكان المدنيين في المخيم. ولذا فاتح الفلسطينيون المسؤولين اللبنانيين بحل يجتث «فتح الإسلام» من دون دخول مخيم نهر البارد. ولم يكن هذا هو الموقف الفلسطيني الذي سمعه قائد الجيش العماد ميشال سليمان من الوفد الفلسطيني الذي زاره غداة انفجار حرب الشمال.
وبحسب الجهات الواسعة الاطلاع، فإن تراجع الخوض الجدي في حسم عسكري، بعيداً من المواقف المعلنة، يفتح الباب أمام خيارات أخرى تعوّل على عامل الوقت، وتنقل المواجهة من نطاقها المباشر إلى آخر غير مباشر:
ـــــ تضييق الخناق على مخيم نهر البارد أسوة بما هو قائم حول مخيم عين الحلوة، ما دام الدخول العسكري إلى المخيم يفتح الملف السياسي لواقع المخيمات الفلسطينية في لبنان. ودون ذلك أسباب شتى لاعتراض فلسطيني ولبناني وعربي على انتشار الشرعية اللبنانية، في الوقت الحاضر على الأقل، داخلها تحت أي ذريعة.
ـــــ شل قدرات تنظيم «فتح الإسلام» على التحرّك خارج مخيم نهر البارد، على غرار ما حصل مع «عصبة الأنصار» و«جند الشام» في مخيم عين الحلوة، في انتظار التوصّل إلى حل سياسي مجدٍ مع الفصائل الفلسطينية حيال تنظيم إرهابي تنكر صلتها به.
ـــــ تنفيذ خطة أمنية بحملات دهم ومطاردة ترمي إلى تفكيكه من خلال اصطياد عناصره واعتقالهم وتسليمهم إلى القضاء، مع معرفة القيادة العسكرية أن أياً من هؤلاء لن يستسلم. وكانوا قد أبلغوا إلى محاوريهم هذا الخيار.