فداء عيتاني
الشارع الطرابلسي يفلت من مرجعيته السياسية وإسلاميون ينتظرون من يقودهم في معركة عبثية ضد الدولة

كيف تبدو طرابلس اليوم؟
تمرّ كل عشر دقائق دورية أو قافلة للجيش على طريق المعرض. على مدخل المدينة الجنوبي تسرع سيارتا جيب تحملان مدفعين من عيار 106 ملم وتدخلان إلى المدينة. في أحد فنادق المدينة يمكن سماع ضابط برتبة نقيب يصرخ على الهاتف: «ليس أسلوباً في العمل هذا». ويقفز جندي من مغاوير البحر من بين الأشجار ملقّماً بندقيته وطالباً من عابر سبيل رفع يديه. وفي أحياء عدة تتم مداهمات لكل من يعرف عنه بأنه «سلفي جهادي» احترازاً.
غير بعيد عن طرابلس، تحديداً في أحراش الكورة، تصطدم دورية للجيش قرب نقطة مقتل أربعة من عناصره، بمسلحين، فتطوّقهم وتستدعي تعزيزات. يستسلم الشبان ويخرج من بين الحقول ثلاثة مسلحين بعتاد كامل ويسلمون أنفسهم لعناصر الجيش الذين يواصلون البحث عن آخرين يعلمون جيداً أنهم في مكان ما بين المزروعات. هذه حال الخطوط الخلفية، فما بالك بمخيم نهر البارد؟.
يصيب الذهول الشيخ محمد الحاج، الذي كان إماماً لمسجد، حين يدخل إلى مخيم نهر البارد. «لم أتوقّع أن أرى هذا المشهد يوماً»، يقول بعد خروجه. «المكان مدمّر، حرائق في كل مكان، البيوت متضررة بشكل كبير، والكثير منها مهدّم. مسجد التقوى حيث أخطب أصيب بأربع قذائف، وكذلك مساجد الجليل وفلسطين وخالد بن الوليد والقدس، وهناك مساجد دمرت بالكامل» يضيف الرجل الذي لم يبلغ الخمسين من العمر.
خطّان يتسابقان في الشمال: خط الحل والحوار، وخط معركة استنزاف قد تغيّر وجه لبنان بأسره.
الحوار وسلة النقاط
«نسمع تصعيداً في الكلام الحكومي، ونسمع إصراراً من الجيش على تسليم أنفسنا» يقول أبو سليم طه، من داخل المخيم. عبر الهاتف يمكن سماع صوت صلية من بندقية «ام 16» أصابت حائطاً قربه، ثم صوت إطلاق نار من بندقية كلاشنيكوف ينطلق قريباً من الرجل الذي يتحدث بصوت هادئ.
يحرص الشيخ محمد الحاج على عدم الكلام عن مسار التفاوض، أو الإفصاح عن المطالب والنقاط المطروحة، او حتى إيضاح إن كان هناك أي مطلب إضافي غير تسليم عناصر «فتح الإسلام» لأنفسهم، ويقول إن الأولوية الآن هي لوقف النار، ولإعادة النازحين، ولتحسين ظروف من بقي في المخيم، بعدئذ يتم الحوار حول المسائل الأخرى.
«أبلغنا هيئة علماء فلسطين أن طرح القادة السياسيين اللبنانيين الإعلامي بضرورة تسليم أنفسنا مرفوض. لن نسلّم أياً من عناصرنا. كنا قد استقبلنا النقاط التي نقلها الينا العلماء بإيجابية» يقول طه. ويضيف: «معنوياتنا في أعلى مستوى، والوضع في المخيم هادئ، هناك مناوشات، لكن المشكلة في الوضع الإنساني لأهل المخيم».
العدد الفعلي لأهل المخيم، كما يؤكد الشيخ الحاج، هو بين 8 آلاف وعشرة آلاف، وخفضُ الرقم إعلامياً يثير مخاوف لدى «فتح الإسلام» والمفاوضين من هيئة علماء فلسطين، خشية التغطية على اقتحام يزهق أرواح المدنيين المحاصرين.
«فتح الإسلام» تعلّق بإيجابية على النقاط المطروحة للتفاوض، إلا أنها ترفض، كما يؤكد أبو سليم طه، أي قوات فصل تعمل على تسلّل القوى الفلسطينية كمقدمة للاشتباك بين الفصائل الفلسطينية والتنظيم. ويشدّد على أن زمن التفاوض «مرهون بإيجابية الطرف اللبناني ومرونته». أما الجانب اللبناني فلا يجيب عن أي تساؤلات في شأن نقاط التفاوض وما هو المقبول أو المرفوض فيها.
كان شاكر العبسي قد طلب إشراك إحدى الشخصيات السياسية الشمالية في التفاوض، إلا أن الشخصية رفضت الاشتراك إلا بطلب لبناني مباشر وهو ما لم يحصل، حيث يثير عدم توسيع حلقة المفاوضين بعض المخاوف من أن يتحوّل التفاوض إلى عملية كسب للوقت، وخصوصاً مع ريبة «فتح الإسلام» في الطرف اللبناني المصرّ، إعلاميا على الأقل، على رفع سقف مطالبه.
استنزاف وانقلاب
يصارح أحد كبار ضباط مخابرات الجيش قادة شماليين إسلاميين بأن الجيش أُرهق واستُنزف، وأن الاستنزاف ليس فقط مادياً، بل على مستوى الحلول المطروحة، وأن الوضع السياسي الداخلي زاده إرهاقاً، من شارك في اللقاء لم يكن يتوقّع أن يسمع كلاماً من قبيل «منذ بداية المعارك إلى اليوم ليس لدينا أي جندي في منزله، وقد اضطررنا إلى تنفيذ خطة امنية واسعة في كل الشمال، وليس لدينا إمكان للتبديل بين الجنود حالياً».
الضابط، الذي يتابع بدقة كمّاً هائلاً من المعلومات، يضع زواره في صورة ما يجري. «نتلقّى عدداً هائلاً من الاتصالات حول تحركات مشبوهة هنا وهناك، ولا يمكننا أن نغضّ النظر عن أي منها علماً أن أغلبها كاذب»، أضف إلى ذلك ما يسبّبه تضارب صلاحيات القوى الأمنية التي كادت تتسبّب في مجزرة في حادثة قتل «أبو جندل»، عندما اضطر الجيش إلى إجراء وتلقي ما يقارب 500 اتصال هاتفي بالإسلاميين ومعهم لضبط وضع كان ينذر بالأسوأ.
أحد المتابعين للأوضاع الإسلامية في الشمال يسأل: «ما هي الخيارات المتاحة أمام الجيش؟ لم يعد أمامه إلا اقتحام المخيم بالقوة، وحل المشكلة مهما كانت الكلفة البشرية عالية». إلا أن أحد السياسيين المحليين الذي يعمل على خط العلاقة بين «فتح الإسلام» والجيش والأطراف الإسلامية يرى أن الجيش بحاجة «إلى الإمساك بزمام الأمور للتصرف، كما أنه بحاجة إلى أطراف إسلامية معروفة للتفاوض معها والحوار عبرها، إلا أن الشارع الطرابلسي تشظّى تماماً، المرجعية السُّنية تضمحل كممسكة بزمام الأمور، والمجموعات الإسلامية تتشعّب، ومواقفها تترسّخ ضد تيار المستقبل، وضد الجيش والقوى الأمنية، وهي تنتظر من يقودها اليوم في معركة عبثية ضد الدولة».
تعلم «فتح الإسلام» أن الجيش استُنزف، ولذلك يبدو أبو سليم طه متحدثاً لبقاً وهادئاً وسعيداً بارتفاع معنويات مقاتلي الحركة المحاصرة. الوقت يلعب لمصلحة التنظيم، وضد كل الأطراف اللبنانية، كما الأطراف الفلسطينية بعد استقالة أبو طعان الذي أمضى 17 عاماً في السجون السورية وكلّف قبل شهور قيادة منظمة التحرير في الشمال.
لا تقدّم «فتح الإسلام» طرحاً محدداً، بل تكتفي بالاستماع إلى الطروح اللبنانية «فهناك على الساحة (اللبنانية) من يحرص على التخلص من فتح الإسلام، ونحن جاهزون للمعركة، لكن لا نعتبر هذه معركتنا. وليتركونا بحالنا ولن نكون مِعولاً لهدم الاستقرار اللبناني» يقول أبو سليم طه، مؤكداً «أننا قادرون على الصمود لأشهر طويلة».
وفي المقابل فإن «على الجيش الآن ليس فقط التفكير في حل مشكلة نهر البارد بل أيضا التفكير في حل للحالة السنية المذهبية» كما يرى أحد العاملين على خطي «فتح الإسلام» وقيادة الجيش، وخصوصاً مع توقّع أن تكون «معركة البارد مقدّمة لضرب باقي الأطراف الإسلامية بيد الجيش ولمصلحة قوى الأكثريّة، عبر توريط الجيش مجدداً». ويؤكد الرجل أن تيار «المستقبل» يفقد التفاف الناس حوله في هذه المرحلة، وأن الجيش يفقد صبره، «وقد يقدم على ما هو أبعد من صلاحياته». ويشدّد على «عدم إمكان استمرار الوضع بصيغة لا غالب ولا مغلوب، مع اشتداد رغبة السلفيين في الشمال في حمل السلاح ضد الجيش مع شروق كل يوم جديد من المعارك، ومعرفة الجيش بأن أطرافاً عدة قد توافق ضمناً على حركة مشابهة»، ليخلص الى أنها «فاتورة يجب علينا جميعاً دفعها إذا لم نتوصّل إلى توافق شامل».