جان عزيز
بعد عريضة نواب السلطة إلى الأمم المتحدة، وبعد سلسلة المؤشرات التصعيدية التي أعقبت انتهاء القمة العربية، داخلياً وخارجياً، قفز جدياً إلى واجهة الاهتمام المسيحي، احتمال الوصول إلى فراغ دستوري كامل، بعد أقل من تسعة أشهر.
الاحتمال كان قائماً نظرياً منذ انهيار التحالف الرباعي. والحديث عن تقدمه في الواقع استمر مطّرداً طيلة نحو عامين. غير أنه للمرة الأولى بات يحظى بفرصة كبيرة للتحقق. وهو ما دفع بعض الأوساط المسيحية إلى التساؤل عمّا إذا كان سياق الأمور المؤدي إلى ترجيح هذا الاحتمال على سواه، هو نتيجة سلسلة مصادفات ناجمة عن المأزق القائم، أو أنه ناتج مما هو أبعد وأخطر، أي من حسابات مختلفة المنطلقات ومتقاطعة الاتجاهات، وتصب محصّلتها في الوصول إلى هذا الفراغ.
التساؤل المطروح يتفرع منهجياً إلى البحث المزدوج: هل من مصلحة لكل من الطرفين الأساسيين في كل من السلطة والمعارضة الحاليتين، وتحديداً من خارج مسيحييهما، في الوصول إلى 24 تشرين الثاني المقبل من دون رئيس جديد للجمهورية؟ وهل لمثل هذه المصلحة المفترضة أو المتصوّرة أو المتوهّمة، أن تكون هي ما يحرّك فعلاً كلاًّ من فريقي السلطة والمعارضة ــ من غير المسيحيين ــ في شكل مضمر أو كامن، واعٍ أو لا واع؟
وبالتالي فالبحث الأول الذي يقفز اليوم إلى صالونات النقاشات المسيحية: ما هي مصلحة الثنائي الشيعي المعارض في تطيير استحقاق الانتخابات الرئاسية؟ والجواب الأولي، أن مصلحة مباشرة طبعاً لهذا الفريق في حصول مثل هذا المحذور. لكن الأفكار الأكثر استشرافاً، لا تلبث أن تتوالى. فالثنائي الشيعي المقصود، بنى موقعه في النظام الحالي طيلة 15 عاماً، استناداً إلى مشاركته القوية والفاعلة في السلطة التنفيذية. وليست مصادفة ولا تفصيلاً أن تكون هذه المشاركة الشيعية قد ارتبطت فعلاً بعلاقة مميزة ودائمة بين هذا الثنائي وبين شاغل قصر بعبدا منذ عام 1989. وثمة من تحدث بصراحة عن «اختصار» الزمن الشيعي وحركته التصاعدية طيلة الحقبة الماضية بفضل هذه العلاقة، إضافة إلى عوامل أخرى منها ذاتي حتماً ومرتبط بإنجازات هذه الجماعة، ومنها ما هو موضوعي خارج عنها، ومنبثق من السياقات اللبنانية والسورية والإيرانية وسواها.
ومع ذلك كله، قد يبدو الثنائي الشيعي اليوم أمام «خطر» أن يكون للمرة الأولى منذ عقد ونصف عقد خارج تلك الشراكة التنفيذية، ومن دون هذه العلاقة المميزة مع بعبدا. وهذا ما قد يدفع إلى الحساب التبسيطي الآتي: بين وجود رئيس للجمهورية معاد لنا، وبين الفراغ نختار الفراغ، خصوصاً أن مثل هذا المطبّ سيؤدي حتماً في اعتقاد البعض إلى تدخل إقليمي ودولي، يكون فيه لدمشق وطهران دور أكبر في إيجاد مخارجه، في ظل العلاقة المتحسّنة بينهما وبين الرياض. عندها تصير المكتسبات الشيعية المحتملة من تطيير الاستحقاق، أكبر بكثير من مخاطر تركه يتم في ظل موازين راجحة لمصلحة الفريق الآخر.
وفي المقابل تطرح النقاشات المسيحية الشق الثاني من الجدلية: وهل من مصلحة للثنائي السنّي ــ الدرزي الحاكم في عدم انتخاب رئيس للجمهورية؟ والانطباع البدهي في هذه الحالة أيضاً، هو النفي العفوي أو السطحي الأول. غير أن السبر إلى الأعمق يظهر في النقاشات نفسها أبعاداً أخرى. فماذا لو كانت موازين القوى الراهنة تحتّم على ثنائي السلطة المقصود، الدخول إلى الاستحقاق الرئاسي عبر بوابة التسوية الوسطية مع معارضيه، والتي تفضي إلى اختيار شخص للمنصب من غير موارنة قريطم ـــ المختارة؟ وماذا لو كان ثمة من يراهن من داخل الثنائي نفسه على أن رفض هذه التسوية الوفاقية سيؤدي حكماً إلى انقسام كامل في المؤسسات الدستورية، بحيث ينبلج صباح 24 تشرين الثاني المقبل وفي البلاد حكومتان، لا تلبثان أن تتذرّرا مجلسين نيابيين، واحد من 70 نائباً والآخر من 57. مع احتمال الذهاب أبعد، أي إلى انتخاب المجلس الأول ــ أي مجلس السبعين ــ رئيساً للجمهورية من صلب موارنة الحريري ـــ جنبلاط، وفق نظرية النصاب الاكثري المطروحة الآن؟ عندها، ودائماً وفق تصور حسابات فريق السلطة، سيكون الاعتراف الدولي بكل من «الدولتين» اللبنانيتين، هو العامل الاكثر وزناً في حسم الصراع. وهذا «الاعتراف» قادر على تخطي أي شوائب دستورية أو حتى ميثاقية، في فرض وجهة نظره على اللبنانيين، تماماً مثلما حصل مع اتفاق الطائف قبل 17 عاماً. وما دام العدد الساحق من «المعترفين» عربياً وغربياً سيكون لمصلحة الرئيس المستظل الزيارات الدبلوماسية الى الضريح، عندها تكون الغلبة لثنائي السلطة على الثنائي المعارض، بتغليب مسيحي من ذاك على كل المسيحيين وعلى كل اللبنانيين. وهذا ما يفتح المجال أمام السؤال السلطوي: لماذا نغامر بالوصول الى رئيس وفاقي، ما دام الفراغ يؤمن لنا لاحقاً رئيساً تابعاً لنا بالكامل؟
عند هذا الحد تنفتح النقاشات المسيحية على السؤال: وأين هي مصلحة المسيحيين، وخصوصاً مصلحة ميثاق العيش المشترك، في الحسابين المفترضين السابقين؟ معدومة طبعاً. لا بل مستحيلة واقعاً ومنطقاً، استدلالاً بالتجربة الماضية أو استقراءً للتداعيات الممكنة لمثل هذا المحظور.
بناء عليه هل يمكن المسيحيين القيام بأي دور يحول دون الوصول الى هذا المهلك؟ قد تكون الخطوة الاولى لذلك في الوقف الفوري للتفكير في الحسم العسكري الداخلي بين المسيحيين، وفي استذكارات سيناريوهات 7 تموز و 15 كانون الثاني في النقاشات الداخلية لبعض القوى المسيحية، في ظل تقرير صحيفة «صنداي تلغراف» عن أن نصف الموارنة يتطلعون الى الهجرة في لبنان، وأن مئة الف منهم تقدموا بطلبات لذلك، وأن نسبة المسيحيين في لبنان مقدرة بحسب استطلاع الصحيفة نفسها بنحو 22 في المئة.