strong>غسان سعود
التلكؤ في تطبيق القانون بحق المعتصمين في وسط بيروت، لارتباط
هذا الفعل بسجال قانوني حول أسبقية الحرية الفردية على الحرية الجماعية، يفتح الباب واسعاً أمام اجتهادات وردود فعل عفوية من أصحاب المصالح في وسط بيروت ورواده، وهؤلاء هم الضحايا الفعليون لتلكؤ السلطة في القيام بدورها من جهة، واصرار المعارضة على اعتصامها من جهة أخرى

تبحث رنا بين ثيابها عمّا يمكن تصنيفه محتشماً. تستجيب لتمني والدتها عدم وضع الكثير من العطر قبل أن تخرج من المنزل متوجهة إلى مقر عملها في وسط بيروت. لكن الوصول إلى الموقف المخصص لسيارتها في مبنى المؤسسة التي تعمل فيها بات مستحيلاً.
هنا وسط بيروت. علي وبلال منتدبان من حزب الله بحسب قولهما لحفظ الأمن في مخيم المعارضة حيث يتواصل الاعتصام منذ أكثر من أربعة شهور. يئست رنا من التفاوض مع الشباب، وباتت تبكر في الوصول إلى عملها لتتمكن من ايجاد مكان على يمين الطريق تركن فيه سيارتها وتتجه سيراً صوب مكان العمل. بغضب تقول رنا إنها مؤيدة للمعارضة لكن ما يحصل غير مقبول «نحاول أن نفاوضهم فيطلبون منا تقدير توفير أجار الموقف» وتكمل متذمرة من الأمطار التي كانت ترهق أعصابها منذ الصباح في الشتاء، ومن الـ«تلطيشات» المزعجة التي تتعرض لها يومياً وتجعلها تتردد جداً قبل ارتداء الملابس التي اعتادتها.
هنا المدخل الشمالي للاعتصام، تقفل الطريق العام تحت جسر فؤاد شهاب بعوائق حديدية ومكعبات باطونية ويقف شابان ليطلبا من سائقي السيارات تغيير وجهة سيرهم بسبب إقفال الطريق. فيما يسمح بين وقت وآخر لبعض السيارات بالمرور بعد أن يبرز الموجودون فيها «تصريح مرور» بحسب أحد الموجودين على الحاجز. ويوضح شاب ثلاثيني من عناصر الانضباط، أن اللجنة المكلفة الاهتمام بأمن المجتمع أعطت لبعض السيارات هذا التصريح الذي يسمح لحامله أن يعبر ساحتي الاعتصام بسيارته. والتصريح عبارة عن رقم يعطى للسيارة، يبرزه حامله حين يصل إلى الحاجز، فيتأكد العنصر الموجود على الحاجز من مواصفات السيارة مثلما هي في ورقة خاصة يحملها، وإذا شك بأمر ما يطلب من السائق أن يبرز دفتر السيارة. يتكرر المشهد، ومعظم المؤسسات استحصلت على تصاريح لثلاث سيارات حداً أقصى. ويوضح معظم الموظفين أنهم يدخلون إلى الوسط من جهة الجميزة، فيما يقول موظفون آخرون إنهم يفضّلون الدخول إلى أعمالهم من الجهة المقابلة لمبنى بلدية بيروت، حيث علاقتهم مع القوى الأمنية اللبنانية مباشرة لا مع عناصر حزبية.
هذه العناصر التي لم تقم حاجزاً يدقق في هوية أصحاب السيارات التي ترغب في الدخول إلى وسط بيروت إلا بعد مرور عشرة أيام على انطلاقة اعتصام المعارضة، تثير جدلاً في الأوساط القانونية، السياسية، والاقتصادية. وتثير خصوصاً ضيق موظفي الوسط، وأصحاب المصالح فيه، الذين يتهمون المعارضة بانتهاك حقوقهم، والتعدي على أملاكهم وأرزاقهم، بطريقة غير مباشرة عبر قطع الطرق ومنع زبائنهم من الوصول إليهم.
في القانون، تنص المادة 750 من قانون العقوبات على معاقبة كل من يقدم على تخريب الساحات والطرق العامة أو تعييبها بالسجن حتى ستة أشهر، وبالغرامة من مئة ألف إلى مليون ليرة. فيما نصت المادة 751 على العقوبة نفسها لمن سدَّ الطرق العامة بدون داعٍ ولا إذن من السلطة بوضعه أو تركه عليها أي شيء يمنع حرية المرور وسلامته أو يضيقهما». وتدعو المادة 600 من القانون إلى سجن من تسبب «خطأ» بتخريب وتهديم طرق النقل والمواصلات مدة لا تتجاوز ستة أشهر. والمشكلة بحسب الخبير القانوني زياد بارود قد تحتمل النقاش في ما يتعلق بالأملاك العامة. أما في الأملاك الخاصة، ومهما كانت الخلافات السياسية، فلا حق باحتلالها. وهذا الأمر لا يحتمل الاجتهادات أو الجدل. فيما يمكن القاضي أن يعطي أسباباً تخفيفية إذا حصلت ملاحقة قانونية بشأن احتلال الأملاك العامة. وفي المقابل، يسأل أحد زملاء بارود عن السبب الذي يمنع الدولة من قمع هذا الاحتجاج الشعبي، محملاً الحكومة مسؤولية مخالفة المعارضة للقانون. علماً أنه ما من قانون ينظم التظاهر والاعتصام في الدستور اللبناني وملحقاته القانونية. وحين يتحول الاعتصام إلى شغب، يفترض بالسلطة أن تعطي المعتصمين انذاراً، الأمر الذي لم يحصل حتى اليوم. وبحسب الاجتهادات، فإن غياب الانذار يعني أن الاعتصام قانوني. والسؤال الرئيسي الذي يطرح نفسه مجدداً: إذا كانت الحرية الجماعية أهم من الحرية الفردية في لبنان، فلماذا لم تتحرك الحكومة حتى اليوم. ويفترض البحث عن حل إذا كانت الحرية الجماعية لمجموعة تتعارض مع الحرية الجماعية عند مجموعة أخرى.
وفي ساحة رياض الصلح، يرفض أحد مسؤولي المعارضة التعليق على هذا الموضوع، مؤكداً وجود أهداف سياسية تقف خلف اثارة هذا الأمر. وينتقل بسرعة من الكلام القانوني إلى السياسة مؤكداً أن الاحتلال الحقيقي والعبث بالمؤسسات الرسمية والخاصة، يتمثل بوجود الرئيس فؤاد السنيورة في السرايا الحكومية. وتضغط السياسة باتجاه تضييع النصاب القانوني لبحث هذا الموضوع، وينقسم الخبراء القانونيون في موقفهم منه بحسب انتماءاتهم السياسية. الأمر الذي يزيد من المأساة الاقتصادية التي يرتبها استمرار الاعتصام على حاله، من دون تعديل في حدوده على الأقل. ويهدد بعض التجار برفع دعوى قضائية امام مجلس شورى الدولة للحصول على تعويضات من الدولة لعجزها عن حماية مصالحهم. وبحسب احصاءات نقابة المطاعم والمقاهي والباتيسري، فقد اقفلت قرابة 80 مؤسسة في الوسط، منها 10 مؤسسات اقفلت نهائياً، و60 مؤسسة مؤقتاً. وأحصيت قرابة 30 مؤسسة تعمل لفترات قصيرة خلال النهار أو المساء في محاولة لخفض الاكلاف التشغيلية. ويدعو اتحاد النقابات السياحية إلى تأمين قروض للمؤسسات المتضررة بقيمة 200 مليون دولار لآجال طويلة وبفوائد مدعومة. وكان الرئيس السنيورة قد قال رداً على سؤال عن إمكان إخراج المعتصمين من الوسط التجاري عبر الوسائل القانونية إنه يبحث عن حل وفاقي بعيداً عن المواجهة التي لا تخدم أحداً. فيما شدد وزير السياحة جو سركيس أكثر من مرة على تفهمه لأوضاع التجار وأصحاب المؤسسات في وسط بيروت، وتمنى عليهم التكلم بصوت هادئ ومسؤول والقول لمسببي هذه الأضرار أنهم لا يستطيعون التحمل أكثر. أما شركة سوليدير، فعمدت من جهتها إلى تقديم عدة مساعدات لدعم التجار في «صمودهم» كما يقول أحد كبار الموظفين فيها. وبين هذه وتلك، يقول أحد الخبراء القانونيين، إنه استفاد من الظاهرة الاستثنائية الموجودة في وسط بيروت اليوم ليطرح على طلابه في الجامعة اشكالية تنتهي بالجزم أن السياسة والقانون في لبنان متلازمان، مشيراً إلى أن خروج المعارضة من كمين الاعتصام الذي وقعت فيه قد يكون عبر القانون في نهاية المطاف.