بعلبك ــ عبادة كسر
هل يعود احتفال «خميس الدعسة» أو «خميس المشايخ» الديني إلى بعلبك بعد طول غياب؟ مرّ موعد «الاحتفال» ولم تخرج النوبة، فالجميع في المدينة يتحسر على غياب هذا الطقس الديني الذي عرفته المدينة منذ القدم. فخميس «الدعسة» احتل ذاكرة كل مواطني بعلبك باختلاف ألوان الطيف واستعمر ساحات المدينة، لكنه الاستعمار البنّاء الذي قلب قاعدة: فرق تسد، إلى مبدأ: تآلفوا وتحابّوا تسودوا.
خميس الدعسة هو طقس ديني كان يمارسه أهل التصوف في بعلبك ممن يتبعون الطريقتين المعروفتين: الرفاعية والقادرية، وكان لهما مشايخ عرفوا بالصلاح والتقوى. ويقول الشيخ عبد الغفار عرفات وريث الشيخ صالح وابنه الذي ورث عنه الطريقة وحفيد الشيخ الصوفي عارف عرفات: «نحن من أتباع الطريقة القادرية الرفاعية المنسوبة إلى عبد القادر الجيلاني، وأحمد بن الحسين الرفاعي التي تعتمد التوريث أساساً لعملها، وتقوم على تقليد منصب شيخ الطريقة، وينقل عنهم الكرامات والخوارق والأمور الغريبة، وقد ورّثني والدي المرحوم الشيخ صالح عرفات ذلكوعن تاريخ الدعسة، يقول عرفات: «بدأت طقوس الدعسة، أو خميس المشايخ، بعهد الخلفاء الراشدين في زمن الأقطاب: أبو يزيد السلطاني، عبد القادر الجيلاني، أحمد الرفاعي وابراهيم الدسوقي، ونظمها صلاح الدين الأيوبي وجعلها مناسبة سنوية تسبق عيد النيروز عند الفرس».
يعود تاريخ طقس خميس الدعسة في بعلبك إلى 800 سنة تقريباً، حيث كان يجتمع المريدون أي السالكون طرق التصوف في ساحة النبي إنعام وإمام زاوية الشيخ صالح عرفات حي آل الرفاعي (أي المكان الذي كان يُقام فيه ذكر لله، وتمارس فيه طقوس دينية من أهازيج دينية، وضرب الشيش والسيف وأكل الزجاج والجمر وهو مشتعل)، وينطلقون في مسيرات تجوب الشوارع لزيارة أضرحة الأولياء في المدينة، ويتقدمهم حملة الأعلام الكبيرة أو السنجق الذي كتب عليه أسماء أقطاب الحركة الصوفية، فيسيرون وهم يرددون المدائح النبوية ويضربون على الدفوف والطبول، ويتقدم الجميع الشباب الذين يتوزعون بين ضرب السيف والشيش وأكل الزجاج والجمر وهو مشتعل ونحر الخراف.
كان للمناسبة ذكرى سنوية تحتفل بها بعلبك التي كان يؤمّها حشود «مؤيدة» من سوريا والعراق ومن المدن والقرى اللبنانية، حيث كانت تتحول المدينة إلى كرنفال يستمر من الصباح حتى المساء. وبعد زيارة الأضرحة واللعب بالسيف والترس يتجمع الناس على أطراف الطرقات ومن ثم يسيرون وراء النوبة، ويتزامن ذلك مع شراء متطلباتهم من أكل وشرب. ويضيف الشيخ عبد الغفار متذكراً: بعد الجولة على الأضرحة كان العديد من المشاركين يتمددون على الأرض ويعتلي شيخ النوبة صهوة جواد فيعبر على الأجساد من دون أن يشعروا بالدعسة إلا بمرور نسمة هواء عليل عليهم». ويردف: «لقد قمت بالدعسة عندما كنت في الثانية عشرة من العمر حيث كُلفت أن أمتطي الخيل وأدعس بها على الناس». ويتابع: في أحد الأيام أراد أهالي المدينة أن يمتحنوا كرامة الشيخ صالح، فسجنوا حصاناً لمدة أشهر، أطعموه فقط الشعير حتى لا يقدر عليه أحد ولم يفرجوا عنه إلا يوم خميس الدعسة. همس الشيخ صالح في أذن الجواد بآيات من القرآن وامتطاها وسار بها فوق أكثر من 500 شخص منبطحين على الأرض في ساحة السرايا حيث لم يتأذّ أحد منهم أو يصبه مكروه».
إن نوبة الخميس أو خميس الدعسة لم تكن حكراً على المذهب السني، فللمذاهب الإسلامية الأخرى مشاركة أيضاً، ومن أصحاب الزوايا في بعلبك المرحوم خليل ياغي، والشيخة بدر كسر التي جددها ابن أخيها الشيخ محمد حسن كسر أبو يوسف، الذي ما زال حتى اليوم مع أبنائه وأحفاده يحيون هذه الطقوس.
ويقول الشيخ عبد الغفار: «إن أعمال الصوفية هذه ليست بدعة، لأن هذا العمل لله وهو عمل صالح، ومن تفقّه ولم يتصوّف فقد تزندق، ومن تصوّف ولم يتفقّه فقد تفسّق، ولكل شيخ من شيوخ الصوفية كرامات دُوّنت في كتب كثيرة، منها: الغُنية، الروض الفائق، البرهان المؤيد، التعرف لمذهب أهل التصوف، سر الأسرار». ولكن هل سيعود خميس الدعسة إلى بعلبك؟ يجيب الحاج أبو يوسف كسر «سنعمل على أخذ إذن من شيخنا الكبير حمود الشوعة (في سوريا) لكي نُحيي طقس الدعسة في المدينة، لكننا ما زلنا، في زاويتنا، نقوم كل خميس بمولد نبوي، نمدح به الرسول وندقّ الطبول والدفوف ويمارس شبابنا ضرب الشيش والسيف وأكل الزجاج والجمر المشتعل.