strong>مهى زراقط
  • الشباب المتطوّع يوقف جرف الحارة القديمة ويفرض مشروعاً لترميمها

    لا مشاكل مالية في عيتا الشعب، البلدة التي تبنّت
    قطر مسؤولية إعادة إعمارها. هناك العمل على إعادة البناء جارٍ على قدم وساق طالما أن الغالبية الساحقة تقاضت تعويضاتها. رغم ذلك تشكل هذه البلدة استثناء فرضه وجود خمسة شباب متطوعين فيها يراقبون عملية إعادة الإعمار


    حسينية عيتا الشعب هي وجهة أهالي البلدة بعد ظهر أحد ماطر مرّ قبل أسبوعين. ليست المناسبة ذكرى أسبوع ولا دعوة لتقديم طلبات من أجل الحصول على تعويضات. إنها ندوة ينظّمها شباب «صامدون»، كما هم معروفون في القرية، من أجل التوعية مجدداً على الطريقة الأفضل لإعادة إعمار البيوت والتحذير من المساس بالقديمة منها.
    رسوم هندسية على جدران الحسينية، خرائط وأقلام ملوّنة، والشباب، إسماعيل وعبير ونادين وفهد وعمرو، حاضرون للإجابة عن كلّ الأسئلة والاستيضاحات التي سيطرحها المواطنون.
    يتقدّم رجل تجاوز السبعين من عمره في اتجاه إسماعيل، يسأله: «أنا موافق على اقتراحكم، لن أبني بيتي في الحارة القديمة من باطون، لكن هل تعطيني ورقة تفيدني ما هي الخطوات التنفيذية التي ستقومون بها لكي لا يكون الكلام شيئاً والتطبيق شيئاً آخر..؟». يبتسم إسماعيل ويسجّل على الأوراق التي بين يديه ملاحظة: ورقة مكتوبة بالخطوات العملية.
    المختار حسين حاريصي، لا ينتظر ليجلس بل يبدأ حديثه من بعيد: «شوف يا أستاذ إسماعيل، أنا لا أريد حارة ضيّقة. الأهالي يريدون أن يركنوا سياراتهم. عليك أن تعدني بأن التخطيط سيلحظ هذه المسألة وإلا فلن أوافق عليه».
    يشرح إسماعيل للمختار: «تقوم فكرة الحارة القديمة على عدم إدخال السيارات إليها. على تلاصق البيوت. الحارة ليست مظهراً فقط، هي جوهر، هي نسيج علاقات اجتماعية وتواصل».
    يقاطعه المختار: «كيف أقنع الناس بأن لا تحلم بتحسين ظروف حياتها، من كان لديه غرفتان يريد التوسّع...»، يقاطعه رجل آخر: «من ستقنع؟ أنا أريد أن أعيش كما عاش أهلي، أن أعود للعب «الكلّة» في الحارة بعيداً من السيارات...»، والحل؟ أين نضع سيارات الناس؟ يقترح إسماعيل حلاً يقضي ببناء مواقف للسيارات في الساحات الكبيرة أو أن يبني كلّ شخص كاراجاً في منزله، «أو بع السيارة واشتر حمارة عوضاً عنها»، يقول آخر ممازحاًيشكّل هذا النقاش مبرّر وجود الشباب المتطوّعين في البلدة. أقاموا فيها منذ اليوم الأول لانتهاء الحرب «تخوّفاً من التغييرات السلبية التي قد تحصل في عملية إعادة الإعمار»، توضح عبير سقسوق: «خلال الحرب كنا نفكّر في هذا الموضوع، أحببنا أن نكون مستعدّين وأن نذهب إلى مكان نراقب فيه هذه العملية لمنع التغييرات السلبية. اخترنا عيتا لأنها من القرى التي تعرّضت لدمار كبير».
    ثمانية أشهر مرّت على وجود الشباب في القرية، كان عددهم يتزايد أو ينقص وفقاً لوتيرة العمل. وانضم إليهم متطوّعون من دول مختلفة ساعدوا في أعمال المسح والرسم والتخطيط الهندسيين وفي بناء علاقة الثقة مع الأهالي: «لم يكن الأمر سهلاً في البداية لأن الأهالي كانوا مهتمّين بمعرفة المبلغ الذي سيحصلون عليه لا الاستماع إلى نصائح عن إعادة الإعمار».
    زاد من صعوبة العمل الكشوف المتعدّدة التي جرت في القرية والفروق الكبيرة في ما بينها، إلى أن قرّر القطريون تكليف شركة خاصة القيام بكشف منفصل. خلال هذا الوقت كان الشباب يدرسون المكان، اشتروا خرائط جوية من أموال التبرّعات التي حصلوا عليها، وقدّموا للبلدية الدعم التقني الذي تحتاج إليه في الأمور المتعلّقة بإعادة الإعمار.
    بناء على هذه الدراسات صار في إمكان إسماعيل التحدّث عن مناطق استراتيجية في القرية هي: الحارة القديمة، الأراضي الزراعية، الطريق التي تصل بين القرى، وامتداد القرية القديمة.
    لكن أكثر ما يهمّه الإشارة إليه هو الحارة القديمة التي تدمرت بشكل كبير «لكن ركامها لا يزال موجوداً». ينتقد إسماعيل عملية الجرف التي لم تأخذ بعين الاعتبار أي شيء له علاقة بتاريخ هذه الحارة موضحاً أن «المعركة» الرئيسية التي خاضها ورفاقه كانت وقف عملية الجرف «لم يكن الأمر سهلاً في ظل إصرار المقاول على مواصلة عمله وهو الذي كان يتقاضى المال مقابل كلّ طن». وصل الأمر إلى حد قيام عبير بالجلوس على الجرافة التي هدّدت أحد أقدم بيوت القرية... و«عندما صدر قرار وقف الجرف كانت الحارة القديمة فقدت عشرين بيتاً إضافياً إلى البيوت المهدّمة».
    لكن لماذا يريد الشباب الحفاظ على الحارة القديمة إذا كان الأهالي راغبين في «تحسين» ظروف حياتهم؟
    يُفاجأ إسماعيل بهذا السؤال... ربما لا يجب أن يُطرح مع وجود أكثر من سبب: «الحارة القديمة هي التي تشكّل النسيج الاجتماعي للبلدة. تعزز المشاركة والتواصل بين الناس. وإننا ضدّ أن يمحو العدوان جزءاً له علاقة بتاريخنا وخصوصاً أن تدمير الحارة جرى في اليوم الأخير من الحرب، ما يعني أن الاسرائيليين تقصّدوا ذلك»... ويضيف سبباً آخر: «للحارات القديمة قدرة أكبر على صدّ الاعتدءات ومقاومة جيوش منظمة».
    وقف عملية الجرف تمّ بناء على مشروع لإعادة إعمار الحارة تقدّم به الشباب إلى القطريين «عندما وافقوا عليه أقنعنا جزءاً كبيراً من الناس أن ينتظروا». ويقضي الاقتراح بأن يتقاضى أصحاب البيت المصنّف المبلغ نفسه الذي يتقاضاه أصحاب البيوت المهدّمة «شرط أن لا يهدموا منزلهم بل يرمموه... لكننا لم نجبر أحداً على هذا الاقتراح وبقي الخيار بيد الناس.. ربما كان يجب أن نجبرهم». يقول بحزن. وما يثير حزنه أكثر أن أصحاب البيوت كانوا يبادرون بأنفسهم إلى هدمها على حسابهم الخاص «أعتقد أن الظروف التي كانت تدفع بعضهم إلى اتخاذ القرارات لم تكن دقيقة». إضافة إلى أسباب أخرى منها: «القطريون لم يتحمّسوا في البداية، البلدية لم تشجّع بطريقة قوية، والأهم أن ملكية البيت لا تعود غالباً لشخص واحد بل لمجموعة من الورثة».
    يوافق رئيس البلدية تيسير سرور على ما يقوله الشباب الذين يشكلون «الجزء الفعال في البلدية واعتمادنا عليهم وهم يشكلون اليوم قسم التخطيط والهندسة في البلدية».
    ويشير سرور إلى الضرر الكبير الذي حلّ بالحارة القديمة: «حيث دُمّر العديد من الـــــــبيوت وأدى تلاصق بيوت الترميم وبيوت الهدم إلى ارتفاع عدد هذه الأخيرة، علماً أن إعادة الترميم فيها قد تكلّف أكثر من إعادة البناء في أمكنة أخرى في البلدة». ويوضح سرور أن مسؤولية الجرف لا تقع على عاتق المقاول فقط بل «الناس كان لهم الدور الأكبر ولا يمكننا كبلدية أن نمنع الناس من بناء بيوتها بالطريقة التي ترغب فيها». وفيما يعترف بصعوبة العمل بدقة كاملة في ظل ظروف مشابهة لظروف عيتا إلا أن هناك مراعاة لعملية البناء بنسبة 90%.
    أعمال كثيرة قام بها الشباب في البلدة من أجل المحافظة على هذه النسبة، منها قيام إسماعيل وعبير برسم تصاميم لأكثر من ألف بيت، دفعوا تكلفة تفكيك ستة بيوت حجرية بطريقة يدوية. وعرضوا في الحسينية مشاريع تصاميم لمساجد، ولديهم الكثير من المشاريع التي تحتاج إلى تنفيذ... يعدّدها إسماعيل ويدل إليها على الخرائط الموضوعة على الجدران: مشروع متحف لأقدم بيت في عيتا بتمويل من الجامعة الأميركية، مشروع لمكتبة عامة في بيت قديم كان سيجرف. والأهم مشروع خاص للاستفادة من دبشة حمزة التي وضع فيها الركام: «تطلّ الدبشة على فلسطين. الفكرة أن نحوّل المكان إلى مسرح مفتوح يشكل مكاناً لنشاطات كثيرة». الفكرة أن نقول إننا نرفض الموت ويمكننا أن نحوّل الدمار إلى مكان قابل للإبداع.




    قصة «الصامدون» كان لكلّ من هؤلاء الشباب عمل مدفوع قبل الحرب. عبير كانت تعمل في الجامعة الأميركية مساعدة أبحاث هندسية، انتهى عقد عملها في آب 2006 وكانت أمام خيارين «إما تجديد العقد وإما السفر لإكمال دراستها في الخارج. مع اندلاع الحرب ألغت السفر لأن هناك أولويات في لبنان».
    أما نادين (تصميم تخطيطي) فكانت قد تركت عملها قبل الحرب بأسبوعين وانضمت إلى فريق «صامدون» للإغاثة: «هم اعتبروا أن عملهم انتهى عندما انتهت الحرب لكننا كنا نفكّر بطريقة أخرى».
    فهد كان يعمل في مطعم في سن الفيل وعندما اندلعت الحرب كان يقضي إجازته السنوية في سوريا. من هناك اتصل يسأل عن إمكان التطوّع والتحق بـ«صامدون» ثم ساعد الشباب في عيتا، «استفادوا من خبرتي في أعمال البناء. كنت أراقب تفكيك البيوت وأتابع عمليات الجرف». هو لن يستطيع البقاء طويلاً في الـبلدة، «لا يمكنني أن أبـــــــقى بلا عمل أكثر من عام».
    أما إسماعيل فكان قد ترك عمله في شركة هندسة وسافر إلى بلجيكا لإكمال دراسته قبل أن يعود إلى لبنان قبل الحرب بستة أشهر ويقرّر العمل على مشروع لتحسين ظروف الحياة في مخيّم برج البراجنة «لأنني أعاني خلال العمل في شركات هندسية لا بعد اجتماعياً لها». عندما اندلعت الحرب أعطيت الأولوية للجنوب، «وحين ينتفي سبب وجودي في البلدة سأعود إلى المخيّم».