عرفات حجازي
مع وصول التوتر إلى مستويات غير مسبوقة في الداخل، ومع انسداد أفق الحوار وتراجع الوساطات والمبادرات العربية والإقليمية، ومع صعوبة الحديث عن انفجارات أمنية تعيد الوضع إلى بدايات الأزمة في منتصف السبعينيات لعدم وجود قرار كبير بالحرب في معظم الدول الفاعلة والمؤثرة على ساحة لبنان، ومع أن مواقف الأطراف الأساسيين في الموالاة والمعارضة تؤكد بإصرار أن
الفتنة خط أحمر ولن تنجر إلى الحرب والمواجهة، إلا أن التدقيق في الوقائع وما يجري خلف الكواليس والأحاديث التي تدور في الغرف المغلقة يوحي بأن ثمة من يعمل على إحياء فكرة الدويلات والفيديرالية انطلاقاً من استحالة التوفيق بين نهجين وخطين متعارضين ومشروعين يتصارع أصحابهما على ساحة المنطقة وعليها، بحيث لم يعد الحديث عن التفاهم على المحكمة والحكومة على قاعدة التلازم والتزامن بينهما هو المدخل إلى الحل، فهذا العنوان للخلاف القائم تجاوزته التطورات التي فرضت جدول أعمال جديداً مرتبطاً بعمق الصراع على موقع لبنان ودوره، وهذا ما أشارت إليه وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس عندما رأت لبنان بمثابة الخط الأمامي لمشروعها المعد للشرق الأوسط، فيما تراه طهران ودمشق خط الدفاع الأول عن مشروع الممانعة للمشروع الشرق أوسطي.
وتجمع التحليلات المواكبة لمسار الأزمة اللبنانية على أن ما حدث خلال الأسبوع الفائت يضرب وحدة البلد ومناعته، ويضع الوضع اللبناني في عهدة المعادلات الدولية والإقليمية بعدما أصبح التعاطي مع مجلس الأمن في كل صغيرة وكبيرة هو السلوك الذي يحكم فريق الأكثرية على حساب الحوار والتفاهم الداخلي، وربما لهذا السبب لا يزال الأمين العام للأمم المتحدة ودول لها وزنها وتأثيرها ينصحون الحكومة اللبنانية بفتح قنوات الحوار وإتمام المصالحة اللبنانية ــ اللبنانية كي يسهل اتخاذ الإجراءات الدستورية الضرورية لتشكيل المحكمة الخاصة ذات الطابع الدولي.
انطلاقاً من هذا المعطى، ستشهد الأيام القليلة المقبلة زحمة زيارات حاسمة لبيروت ودمشق يستهلها نائب وزير الخارجية الروسي الكسندر سلطانوف لاستكشاف آفاق التوافق اللبناني على نظام المحكمة في إطار المؤسسات الدستورية والتداعيات التي يمكن أن تنجم عن إقرارها في ظل الانقسام الداخلي. أما الزيارة الثانية فهي لنائب الأمين العام للشؤون القانونية نيكولا ميشال على خلفية تقديم الإيضاحات والتفسيرات بشأن نظام المحكمة، علّ ذلك يساعد أطراف النزاع في التوصل إلى اتفاق بشأنها بعد إزالة ما تراه المعارضة التباسات وشبهات في بعض بنود نظام المحكمة.
أما الزيارة الثالثة فهي للأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون الى دمشق لمناقشة الملف اللبناني من جميع جوانبه، وفي ضوء نتائج هذه الزيارة ستتقرر الخطوة التالية في مجلس الأمن، علماً بأن الأمين العام لا يزال مصراً على رأيه بضرورة فتح نقاش جاد بين الأطراف اللبنانية لحل المشاكل في لبنان بدل تفاقهما وإعطاء الفرص الكافية لاستهلاك العملية الدستورية قبل اللجوء إلى مجلس الأمن لإقرارها خارج مظلة التوافق الوطني.
وإذا كانت المعارضة تحمِّل الأمم المتحدة مسؤولية التورط في النزاعات الداخلية اللبنانية وتغليب وجهة نظر فريق على آخر، فإنها على لسان من يدير دفتها السياسية، الرئيس نبيه بري، مصرّة على أن المشكلة ليست في المحكمة، لكنها في الحكومة وفي الشراكة الوطنية في اتخاذ القرارات المصيرية، وإن إقرار المحكمة لن يسهم بحل الأزمة بقدر ما سيزيدها تعقيداً واستعصاء. وهو لا يزال على موقفه بالدعوة إلى نقاش المحكمة للخروج بوفاق داخلي يفتح المسار الدستوري لإقرارها في حكومة وحدة وطنية ثم تحال على المجلس النيابي من خلال رئاسة الجمهورية لتقر وفق الأصول والأسس الدستورية.
وفي رأي الرئيس بري أن الفرصة لا تزال سانحة للأخذ بالنصيحة التي قدمها إلى الأمين العام للأمم المتحدة بتشكيل لجنة قانونية من المعارضة والموالاة بمشاركة ميشال ووزير العدل شارل رزق لحسم الاختلاف في الملاحظات القانونية للمعارضة على نظام المحكمة، لافتاً إلى أن مسألة التزامن بين المحكمة والحكومة لم يكن من منطلق المقايضة، كما يحلو للأكثرية أن تقول، بل من منطلق أن حكومة الوحدة الوطنية هي الممر الإجباري والقانوني للتصديق على المحكمة. وإذا كان الرئيس بري قد أعفى نفسه من المبادرات، فلأنه أدرك أن ثمة أقطاباً في فريق السلطة مدعومة من قوى الخارج ينقلبون على كل الاتفاقات والتفاهمات ويفشلونها، مشيراً إلى أن اللجوء إلى مجلس الأمن والأمم المتحدة بالعرائض والرسائل هو مسار طالما سلكوه للإمساك بالقرار الداخلي وإقفال كل إمكانات الحلول والتسويات الممهِّدة لحل الأزمة السياسية التي يمر بها لبنان.