أنطوان سعد
بعدما حدّد رئيس مجلس النواب نبيه بري جلسة انتخاب رئيس الجمهورية في الخامس والعشرين من أيلول المقبل، وفي ظل تعثّر كل المفاوضات لتأليف حكومة اتحاد وطني أو إنشاء المحكمة ذات الطابع الدولي، يبدو الاستحقاق الرئاسي الفرصة الأخيرة المتاحة لإنقاذ البلاد من الأزمة الخطيرة التي تتخبط فيها. ذلك أن الفراغ في سدّة الرئاسة الأولى مع ما يمكن أن يصحبه من سيناريوهات أبوكاليبتية، من شأنه أن يفتح الوضع اللبناني المتأزم على شتى أنواع التدهور السياسي وربما الأمني، وهذا ما يفترض أن يخيف جميع الحرصاء على الجمهورية اللبنانية أو على ما تبقى منها في ظل النزاعات التي تعطّل سائر المؤسسات الدستورية.
إزاء شعور الأطراف المعنية بالأزمة اللبنانية، محلياً وإقليمياً ودولياً، بعدم قدرتها على الحسم أو على التوافق في مسألة الاستحقاق الرئاسي، تتجه أنظار الجميع إلى البطريرك الماروني نصر الله بطرس صفير باعتباره، أولاً، المرجعية اللبنانية الوحيدة الحيادية التي لم تنغمس في شكل أو آخر في النزاعات القائمة، وثانياً لأنه المرجعية المارونية الأرفع في لبنان. وربما لو كان الوضع السياسي أقل تأزّماً لما كانت غالبية الأطراف السياسية قد أكدت على وجوب إعطائه كلمة الفصل في الاستحقاق المقبل. وفي أية حال، لا شيء يضمن، عندما تحين ساعة الحقيقة، التزام هذه القوى بما سيقرّره سيّد بكركي الذي، بالمناسبة، يشكر القادة السياسيين على إعلانهم ثقتهم به واستعدادهم للالتزام بخياراته، وإن كانت الأيام قد علّمته أنه ليس في إمكانه أن يعوّل كثيراً على وعودهم.
في الواقع، تؤكد أوساط بكركي أن سيد الصرح لا ينوي أن يترك الحبل على غاربه للتجاذبات السياسية التي قد تؤدي بالوضع إلى ما لا تحمد عقباه، وأنه حدد ثوابته بالنسبة إلى الاستحقاق الرئاسي في البيان الأخير لمجلس المطارنة الموارنة. فمن جهة هو مع احترام المواقع والأصول الدستورية ولا يرتاح لأي تحرك التفافي على رئيس المجلس أو لمجيء رئيس بغير قاعدة نصاب الثلثين يشكل تحدياً لفئة كبيرة من اللبنانيين، ومن جهة ثانية هو ضد تعطيل الانتخابات الرئاسية والدخول في مغامرة الفراغ لأن مجموعة ما لم تتمكن من فرض مرشحها رئيساً للجمهورية. الأولوية عنده لإجراء الانتخابات الرئاسية، وهو بحسب العارفين لن يألو جهداً من أجل تحقيق هذا الهدف الذي عجز عنه سنة 1988 على رغم محاولاته الجادة آنذاك للحيلولة دون الفراغ.
يحفظ المراقبون عن الاستحقاق الانتخابي في تلك السنة أن البطريرك صفير لم يوافق على الاتفاق الذي تمّ التوصّل إليه بين الرئيس السوري حافظ الأسد والمبعوث الأميركي ريتشارد مورفي. لكن الواقع أن سيد بكركي ناقش الأخير في مسألة فرض مرشح واحد من زاوية الدفاع عن القيم الديموقراطية، وقال له آنذاك: «لا نريد أن ننطلق من اختيار الشخص بل من مبدأ الديموقراطية والحرية. هل تعتقدون أن الانتخاب يكون حقاً انتخاباً إذا كان النواب لا يملكون حق الاختيار، على الأقل، بين مرشحين اثنين؟». غير أن ما لا يحفظه المراقبون والسياسيون على حد سواء، هو أنه في الساعة التاسعة من صباح اليوم الأخير من عهد الرئيس أمين الجميل، أي في الثاني والعشرين من أيلول 1988 الذي كان مخصصاً لعقد جلسة انتخابات رئاسية، اجتمع سيد بكركي بالنواب المسيحيين وقرأ عليهم قصة السنديانة والقصبة للكاتب الفرنسي جان دو لافونتين. ومغزى هذه القصة معروف، وهو أن انحناء القصبة أمام العاصفة أنقذها من شر الاقتلاع الذي كان مصير السنديانة. وقد أوضح البطريرك صفير للنواب أنه يطلب منهم إبداء المرونة لكن من غير أن يطلب إليهم القيام بأمر محدد، لأن دوره ينحصر في توفير الجو الملائم للنقاش والتباحث بحرية، على أن يتبنى ويدعم ما يرونه يصب في مصلحة لبنان.
سنة 1988 كان البطريرك صفير لا يزال في مستهلّ حبريته ومسعاه لاستعادة الدور التاريخي للبطريركية المارونية، ولم يكن شهد ما أسفر عن الفراغ الرئاسي من ويلات ونتائج سياسية وخيمة. ومع ذلك كان ميّالاً إلى القبول بالتسوية والسير بالانتخابات الرئاسية على رغم انتقاص اتفاق مورفي ـــ الأسد لقواعد الديموقراطية التي يتمسك بها. أما سنة 2007، وبعدما استعاد موقع البطريركية المارونية في قلب المعادلة اللبنانية، فلن يكون من الصعب توقّع دور مباشر للبطريرك صفير في الاستحقاق الرئاسي باتجاه تجنيب لبنان كأس الفراغ الرئاسي. والخياران المتاحان أمامه هما: إمّا رعاية توافق مسيحي على مرشح واحد وإمّا الضغط باتجاه عدم مقاطعة النواب المسيحيين لجلسة الانتخاب.