أنسي الحاج
الذي يَقْتلنا لا يُشبهنا كي نستحلفه. دموع الضحيّة لا تؤثّر إلّا في ضحيّة مثلها.
سواء كانت الجريمة (وما قد يُعَدُّ بعدها) متّصلة بالمحكمة الدوليّة أم بمجموعة من الأهداف تشمل المحكمة وتمتد إلى أبعد، يستطيع مَنْ في يدهم أمر الشارع الإسراع إلى الفخّ للوقوع فيه أو الإسراع إليه لتعطيله. ولمواصلة تعطيله كلّما نُصب. إننا أمام خطر رهيب لن يُسْحَب سيفه من فوق الرؤوس إلّا حين تيأس الفتنة وتستسلم. زعماء الشارع في يدهم المصير. إن المستجيرين بسوريا لن يبقى لهم ما يَنْعمون به إذا انتشرت الفوضى، والمستجيرين بأميركا لن يبقى لهم ما يحكمونه إذا اندلعت الفتنة. لن يبقى لأحد شيء.
الشجاعة كلّها هي الصدق. الصدق في الشعور وفي إعادة النظر بالارتباطات. لا العناد ولا الملعنة. الصدق بكلّ بساطة. هذه هي لحظته. الآن على الأقلّ.

ردّ فعل السيد وليد جنبلاط بالأمس جيّد. ردود فعل السيد حسن نصر الله على حوادث مماثلة في الماضي جيّدة. إراديّات ينبغي أن تصبح قاعدة. وأن نوقف إنتاج أجواء التشنّج التي يستغلّها طبّاخو الفتن لارتكاب جرائم منظّمة غايتها إشعال الحرب الأهلية، ثم ننتظر على فوهة بركان لنمتحن ردّات فعل بعضنا البعض. أن تكون الحكمة باكرة أفضل من أن تأتي على فراش الاحتضار.

يَئِس منتجو الفتنة من افتتان الطوائف تلقائياً، فأرادوا «إعانتها». والعملاء لا يَقتلون كغيرهم، غضباً أو تعصّباً. عندهم خرائط لا فورة دم. العالم العربي منقوع منذ أجيال في جرائم العملاء. والعملاء ينفّذون أوامر متخصّصين في ردّات الفعل. وفي استثارة ردّات الفعل. تواريخنا في ذاكرتهم مادة لدراسة الغرائز. كلّنا في نظرهم قتلى محتملون. فيران في مختبرات الأجهزة.

كما خَلَق الشَحْن السياسي جوّاً مؤاتياً لاغتيال رفيق الحريري خَلَق الشحن السياسي والمذهبي جوّاً مؤاتياً لجريمة تصلح مدخلاً لما هو أشدّ فظاعة منها. تلك كانت ميكانيكيّة جميع الأزمات والحروب والمنعطفات التي صُنعتْ لنا. نوفّر، أو نُدار لنوفّر العناصر اللازمة لاستعمالنا في تحقيق مصالح الآخرين.
لا تقلّ مسؤوليّة السياسيّين في المعارضة وفي الموالاة عن مسؤولية الدمويّين. الشعب البسيط هو أشدّ وعياً من زعمائه. أشدّ وعياً وإخلاصاً ووطنيّة. أقليّة من اللبنانيين تستحقّ أن تُعاقَب بمثل هؤلاء الزعماء.
اليوم أُسقط في يد السياسيين. معناها أنهم لم يروا ما يمكن أن يحصل. مَن لا يرى، وقد تكرّرتْ التجربة حتّى اهترأتْ، مَن لا يرى إلى هذه المسافة القصيرة، كيف يؤتمن على المصير؟ كيف يطمئن الناس إلى قادتهم إذا لم يتعلّم هؤلاء من ألوف المِحَن، من ألوف المآسي في الداخل ومن ألوفها حوالى الداخل؟ قد يكون العراق بعيداً بالسيّارة عن لبنان لكنّه ليس بعيداً على شاشة التلفزيون. ومثله فلسطين. ومثلهما ما تكتبه الصحف الأجنبيّة وما يقوله جميع الديبلوماسيين في صالوناتهم. أين كان «قادةُ الأمّة»؟

لا يُعْقل، في هذا الزمن الخارق التقدّم، في عالم العيون الراصدة للشاردة والواردة، أن تتدفّق حمّامات الدم كما يحصل في العراق. أن يستمرّ القتل في فلسطين. أن يعلَّق لبنان على حافة الإفناء بانتظار إشارة من مديري اللعبة. لا يُعْقَل أن يواصل الإيدز فتكه بإفريقيا لأن الأدوية جُعلتْ أغلى من جيوب الأفارقة. الممسكون بالرقاب يؤلّفون شبكة واحدة في الكوكب ولو تضاربت جنسياتهم.
اللائحة طويلة. في زمن الأمبراطوريّة الرومانيّة كان يُقال الشيء نفسه دون ريب.
كان «العالم الثالث» يومذاك، ونحن منه، يُؤمّن عمّال البناء والمصارعين للترفيه عن شعب روما في الكوليزيه. وحين تحتاج خزينة الأمبراطور إلى المال تجتاح جيوشه إحدى المناطق المحتلّة وتَنْهب.
لم يكن العالم، على الأرجح، ولا مرّة، غير كوارث متنقّلة من مسرح إلى آخر. التاريخ كتاب السفّاحين والضحايا، وَضَع فيه نفر من عبّاد الطغاة قناعَ المجد على وجه الوحشيّة.
قيل إن الشعوب تستحقّ مصائرها وإلّا لما قبلتْ بما لا يزال يحصل لها دون تغيير يُذْكَر منذ بدء الخليقة. مثلما قيل إن العرب يستحقّون التخلّف والفقراء يستحقّون الفقر وموتى المجاعة يستحقّون الموت جوعاً واليهود يستحقّون الإبادة. وأشدّ القائلين بهذه النظريات تعصّباً لها هم الضحايا أنفسهم، إذ لم يعد أمامهم من يبلّون يدهم به انتقاماً غير أنفسهم.
كان يقال، تبريراً لظلام الظلم القديم، إن وسائل المعرفة والاتصال والإعلام كانت معدومة. سقطت هذه الذريعة ولم يتغيّر الظلم. محل الخيول والرماح والسيوف حلّت الطائرات والدبابات والصواريخ والقنابل النوويّة. وما يحصل في العالم العربي منذ أجيال لم يحصل في ضراوته حتّى في عهد روما والهولاكيين.
ما لا يُعْقَل لا يُعْقَل. كان يُظَنُّ أن معرفته تَفْضحه فيتوقّف. انفضح ولم يرفّ له جفن. وحشيّة رغم كل هذا الوعي، وحشيّة من كل الجهات، بلا ارتواء، بعودات دائمة للجرائم والمذابح والدسائس نفسها، وحشيّة كهذه ليست نهاية التاريخ، بل هي على العكس ترسيخ لقواعده الأزليّة ودليل أن الانتفاضات على المظالم استطاعت أن تكون محطّات ولم تستطع أن تصير نهايات.
وها كل شيء، مرّة أخرى، بحاجة إلى البدء من جديد.

اثنان يَقتلان بلا فشل: المقتنع بأنه يخدم مَثَلاً أعلى، والمحتَقِر احتقاراً تامّاً للحياة البشريّة لا يقيم لها، ومبتسماً ابتسامة الليث تلك، إلاّ وزن مآربه.
لبنان ــــــ العراق ــــــ فلسطين يسفك دمها هذان الاثنان، الأخير منهما أكثر.
خلال ثلث قرن من ذبح لبنان لم تذهب جماعة لبنانيّة إلى بلد يضطهد بلدها وتعمل فيه ترويعاً، على سبيل الانتقام، إلّا الاستشهاديون الذين قاتلوا إسرائيل.
العراق يشهد الظاهرة نفسها منذ احتلاله. الفلسطينيون أظهروا خلال تاريخ قضيّتهم عَصَباً أشدّ، ولكنهم ارتموا منذ أعوام في أحضان الالتهاء بعضهم بلحم بعض.
الموكَّل بقتلنا يعرف أننا بسطاء وأننا لن نردّ عليه بسلاحه.
ويعرف أننا أكثر منه تقديراً للحياة البشريّة.
ويعرف أننا عُصاة على الفناء.
لذلك ينهال علينا بلا كَلَلْ. وبحِقْد مَن لا يزرع غير القتل ولا يحصد غير الفشل.

كلّما ازداد وَعْينا للمؤامرة ازداد تفنّن المجرم مفاجأةً وابتكاراً.
غاية القول أَنْ يصمدَ الوعي، لا أن يُطلّ أيّاماً ثم تقضي عليه تطورات مصطنعة لا تعود «قابلة للسيطرة».
ولا تسألوا الشعب. ليس في يد الناس أن تحمي نفسها ولا يجوز. ليقُم المسؤولون بواجباتهم. كلّ نقطة دم ستُسفك بعد استشهاد الفتَيين ستكون مسؤوليّة الهيئة السياسيّة كلّها، حكماً وموالاة ومعارضة.
هناك عملاء، والفتنة لا أحد يريدها إلّا العملاء. الأغبياء والعملاء. هل من الصعب أن يتغلّب شعب بأسره، شعب اكتوى بلا حدود، على العملاء فيه والأغبياء؟
ليتنا نحفر ابتسامة زياد الغندور الطاهرة في سماء لبنان، فنراها كلّما نسينا، ونتعلّم أن نجعل البراءة درعاً ضد الموت ونتوقّف عن الوقوع في حبائل مصطادينا.