جان عزيز
بدا أحد السياسيين مذهولاً حتى الصدمة، بما سمعه من أحد أبرز أركان الفريق الحاكم. جلس الركن في كرسي قصره، وراح يتحدث باطمئنان، يزيد من ركوده بطء وتيرته الكلامية، كمن يخرج الحروف من فكره قيصرياً.
قال ما مفاده: الضربة الأميركية العسكرية لإيران، أصبحت محتومة. الأسباب عدة والخلفيات متشعّبة، لكن المؤشرات باتت أكيدة والاستعدادات واضحة والغارات الجوية على الأقل، آتية لا محال.
بعدها، ودائماً وفق الركن نفسه، تنجز المحكمة ذات الطابع الدولي في جريمة اغتيال رفيق الحريري، بواسطة الأمم المتحدة مباشرة. فتصدر المنظمة الدولية نظامها الخاص، بواسطة قرار جديد من مجلس الأمن، مندرج في سياق الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة. ومع قيام المحكمة، يتابع الركن المقصود، سيصير «حزب الله» في حالة حصار مزدوج. من جهة، هناك افتقاره إلى الدعم الإيراني في ظل الاستهداف الأميركي العسكري لطهران، ومن جهة أخرى، هناك خسارته للعمق اللوجستي السوري، حين يصير نظام دمشق برمته تحت سيف المحكمة.
وينقل السياسي نفسه عن الركن الحاكم المقصود، أنه عند هذا الحد، اكتسب كلامه مزيجاً من الثقة ورضى صاحب العفو والمقدرة والمنّة. فتابع يقول: بوصول الأمور إلى هذه المرحلة، ننتظر أن يتعقلن «حزب الله» وأن يعود إلينا. وسنكون حينئذ جاهزين لاستيعابه، فنرمّم معاً حلفنا الانتخابي قبل عامين، ونستكمل إعادة تكوين السلطة في لبنان. يظل خارج هذه المعادلة طرف واحد اسمه ميشال عون... فننتهي منه.
خرج السياسي الضيف واجماً من لقاء سيد القصر. حاول الإضاءة على بعض ثغر خارطة طريق الحسم السلطوي تلك، لم يفلح. سأل عن مواقف القوى الدولية من بعض مفاصلها الأساسية، فسمع إجابات مطمئنة، وإن مغايرة لوقائع وحقائق جمّة، غير أن أكثر ما بدا مقلقاً في السيناريو المرسوم، هو إحساس الضيف بأن ركن السلطة، يفكر ويتكلم ويتصرف، وكأنما المسيحيون، وخصوصاً بكركي... في الجيب.
أين مكامن الخطأ في القراءة المطمئنة تلك؟ وما هي بالتالي مخاطر توهّمها حقيقة واقعة؟ يجيب السياسي نفسه: هناك ثلاثة أوهام كبرى في هذا المجال.
أولاً: الضربة العسكرية لإيران، تحتاج إلى الكثير من التدقيق، إن لجهة حتمية حصولها، أو لجهة إيجابية نتائجها بالنسبة إلى فريق السلطة في بيروت. صحيح أن كلام الركن الحاكم كان قبل الإعلان عن مؤتمر بغداد الجامع لممثلي واشنطن، طهران ودمشق بعد أسبوعين، كما أنه قبل خبر «الزيارة الإنسانية» لمساعدة رايس إلى سوريا، وقبل زيارة أحمدي نجاد إلى السعودية... لكن ذلك كله لا يعفي الفريق الحاكم في لبنان من مسؤولية العد حتى المئة، قبل الرهان على ضربة أميركية لإيران، وقبل احتساب المغانم بناءً على ثمار ضربة كتلك.
ثانياً: هناك قصة المحكمة الدولية تحت الفصل السابع. لا لزوم لسبر أسرار موسكو وحقبة البوتينية بعد مؤتمر ميونيخ، يكفي على هذا الصعيد سؤال سفراء بعض الدول المعنية والمعتمدة في بيروت. بعضهم يقول علناً إن روسيا لا يمكن أن تمشي بالمحكمة بهذا الشكل. وأحدهم يجزم في لقاءاته أن لا موسكو ولا بكين توافقان، ويضيف ببسمة دبلوماسية، «وقد تكون هناك عواصم أخرى». تسأله في المقابل، هل يمكن السنيورة والحريري أن يكونا قد سمعا في العاصمة الروسية كلاماً مغايراً لهذا النفي؟ يرد سفير الدولة الكبرى: لا أعتقد أن موسكو بلغت من الانفتاح في نظامها ما يسمح بصدور موقفين متباينين منها، في شأن مسألة واحدة. في كل الأحوال، الفيتو المزدوج، الروسي ــــــ الصيني، قبل أسابيع في حالة ميانمار مؤشر، وقضية الملف الإيراني المرتقب خلال أيام، بعد نفاد مهلة الأيام الستين، والحديث عن اقتراح عقوبات إضافية، ستمثّل مؤشراً آخر، لم يتبلور كفاية بعد مؤتمر الدول الست قبل يومين.
لكن ثالثاً: والأهم لبنانياً، يتابع السياسي نفسه، يبدو خطأ السلطة الأفدح في التصرف وكأن الطريق المسيحية ممهّدة لتنفيذ السيناريو الذي رسمه الركن المذكور. تماماً كما توهّموا قبل عامين عند إمرار قانون الحريري ــــــ كنعان في الانتخابات النيابية. ثمة من يضلّل فريق السلطة مسيحياً. قد يكون الإعلام، أو الحلفاء، أو بعض أداء بكركي نفسها، لكن في المحصّلة صارت قصتهم كمن يصدّق كذبته.
ماذا على بكركي أن تفعل؟ يرد السياسي نفسه: لا يكفي إطلاقاً أن تطلب من المطران غي نجيم رعاية لقاء سياسي جديد سيظهر بعد أيام، للتدليل على أن الصرح لم يلتحق بفريق 14 آذار، كما قال وليد جنبلاط في ساحة الشهداء. اليوم، هناك حكومة تجتمع، وتغضّ بكركي الطرف عن دستورية اجتماعاتها. فلماذا لا تطلب من مسيحيي السنيورة ــــــ الحريري إدراج بند قانون الانتخاب، أو فضيحة التجنيس، أو احتلال جنبلاط لمنازل المسيحيين في الجبل، أو سواها من اللائحة الطويلة التي لطالما رفعتها بكركي طيلة أعوام. وحدها بكركي، يختم السياسي نفسه، قادرة، بإعادة تموضعها الجدي، أن تعقلن فريق «العمليات السرية» كما تحدث عنها سيمور هيرش، وأن تعيد توازناً يعتقد زوار البيت الأبيض أنه بات في جيبهم. لذلك ربما على سيد الصرح أن يكرر زيارة واشنطن بعد سنتين على زيارة السيادة، لينجز ما أُغفل يومذاك من توازن، وليُسمع صوتاً مغايراً لأصوات الذين يتحكّم الأموات بأصواتهم.