جان عزيز
لم يسبق لبعبدا وبكركي أن شهدتا عبر تاريخ لبنان المعاصر، وتحديداً منذ قيام دولة الاستقلال في عام 1943، في العلاقة بينهما، كالذي عرفتاه مع الرئيس إميل لحود والبطريرك مار نصر الله صفير. قبلهما كان سيدا القصر والصرح يمشيان مدة ترافقهما في المسؤولتين، ضمن هامش محدد من الود أو الفتور أو حتى الخصومة أو القطيعة. وهو هامش لم يسمع من قبل بانقلاب جذري في علاقة الموقعين، كالذي حصل اليوم بين بعبدا بكركي. فالمطران بولس معوشي لم يكن من المعجبين بكميل شمعون عام 1952، ليتحوّل خصماً لدوداً له أواخر العهد، بعدما صار صاحب السيادة صاحباً للغبطة. وفي المقابل لم يكن البطريرك خريش بعيداً عن تفكير إلياس سركيس عام 1976، ليتحول لاحقاً صدى روحياً مؤيداً للشهابي الثالث...
وحدهما صفير ولحود شذا عن هذه القاعدة، وانقلبا من أقصى التأييد المعلن يوم وصل الثاني إلى بعبدا في خريف 1998، إلى القطيعة الكاملة غير المعلنة في شتاء 2007. علماً بأن العديد من المراقبين رأوا، ولا يزالون، أن التأييد المطلق قبل تسعة أعوام لم يكن غير مشوب بملاحظات عدة، كما أن القطيعة المطلقة اليوم تعتريها انتقادات جمة. فيوم انتخب قائد الجيش إميل لحود رئيساً للجمهورية في 15 تشرين الأول عام 1998، فوجئ السياسيون المسيحيون المعارضون للوصاية السورية، بسلسلة مواقف بطريركية تلامس «خذلانهم» في موضوع الاستحقاق الرئاسي. حتى قبل الانتخابات كانت بكركي قد بدأت تبدي «ارتياحها» للمرشح الأوفر حظاً. وبعده جاءت عظة الأحد الأولى لتشيد من دون تحفظ بالاختيار الرئاسي، ولتتخطى عقدة التعديل الدستوري الذي اقتضاه وصول لحود إلى بعبدا. وفي أول بيان شهري للأساقفة الموارنة تكرر الثناء والحديث عن «المناقبية» و«نظافة الكف» و«الاستقامة» و«الأمل» بالعهد الجديد.
يومها أسرّ العارفون بفكر سيد بكركي وتفكيره، بأن جزءاً كبيراً من تلك الإشارة، جاء رد فعل عفوياً أو مقصوداً، على حالة اللاودّ التي حكمت علاقة الصرح بالسلف إلياس الهراوي. غير أن الذاهبين أبعد فيسبر أسرار «الختيار»، تحدثوا عن عاملين اثنين إضافيين، حتّما هذا التأييد البطريركي لوصول إميل لحود، في ظل الوصاية السورية الكاملة.
العامل الأول اعتقاد صاحب الغبطة بأن قائد الجيش في حينه هو الأقدر على انتزاع ما يمكن انتزاعه للبنان، من «سيادة نسبية» في ظل الاحتلال البعثي الكامل والمسلم بالعجز عن تغييره فوراً. فما كان قد نقل إلى الصرح من حديث عن علاقة ثقة بين إميل لحود و«الوريث الجمهوري» يومها بشار الأسد، كان يشير إلى مثل هذا الاعتقاد، وسط تردد مسيحي شامل، وبطريركي خاص، بين خيار الاستسلام لدمشق من أجل الاستقواء بها، وخيار التزام الوحدة الداخلية للتحرير منها.
أما العامل الثاني الذي يسوقه المطلعون، فهو اعتقاد الصرح بأن لحود هو وحده القادر في حينه على الوقوف في وجه هجمة رفيق الحريري وظاهرته الأكبر من لبنان، على مجالات التوازن المسيحيي ــ الإسلامي في الداخل.
ولم تلبث أن جاءت انتخابات عام 2000 لتكرس الكثير من صحة تلك الحسابات.
ويعتقد العارفون أن أسرار معركة كسروان ــ جبيل في ذلك العام خير دليل على ذلك. يومها وقف صفير ولحود في جبهة واحدة، في مواجهة النظام الأمني ومعه الحريري نفسه. وذاكرة من لم يفقدها من نواب هذه الدائرة السابقين، تحكي الكثير عن أسرار تلك المرحلة.
بعد الانتخابات تغيرت الأمور جذرياً، انتهى ربيع دمشق باكراً، وانسحب الأمر على بيروت. عاد خدام في سوريا، فعاد الحريري في لبنان، وبدا أن إيجابيتي لحود من وجهة نظر بكركي غير واقعيتين، فبدأ الانهيار. ولم يلبث التدهور أن شهد تسارعاً شديداً بعد نداء بكركي في 20 أيلول 2000، ورد فعل بعبدا ودمشق عليه، ثم إجهاض مبادرة نبيه بري إلى الصرح في 24 تشرين الثاني من العام نفسه، يكبد الجليد ويتراكم طوال أربعة أعوام تالية.
جاء التمديد في 3 أيلول 2004، سبقه البطريرك من الديمان برفض هو الأعنف، في الذكرى الـ 84 للبنان الكبير. غير أن صاحب الغبطة لم يلبث أن أسقط فكرة إسقاط الرئيس مرتين على الأقل، الأولى بعيد 14 آذار 2005، والثانية بعيد 14 شباط 2006. حتى صعد النائب البطريركي العام المطران رولان أبو جودة إلى بعبدا قبل أسابيع. جلس إلى يسار لحود مربكاً بعض الشيء، محرجاً في غاية الزيارة. بدأ الحديث متردداً عمومياً، قبل أن يمد يده إلى جبته السوداء، ويخرج رسالة صاحب الغبطة. قرأها لحود فكانت القطيعة. الزوارالبينيون انقطعوا عن العمل، عسكريين كانوا، أو روحيين أو سياسيين. آخر الوساطات المتمثلة بمبادرات خاصة ووجهت بموقف صريح من بعبدا: لن يزور الرئيس الصرح. أما إذا شاء البطريرك المجيء إلى القصر فأهلاً وسهلاً. علماً بأن الفكرة غير واردة إطلاقاً. بقي للموارنة أن يتعايشوا مع قطيعة نهاية العهد، على أمل ألّا تكون نذير نهاية عهودهم في الوطن.
في الزيارة الأولى لإميل لحود إلى بكركي، كان الأول قائداً للجيش، وكانت المناسبة وفاة البطريرك المستقيل، مار أنطونيوس بطرس خريش. قال البطريرك صفير للعماد: «خلينا نشوفك أكثر»، فأجابه: «ما تقول هيك، يمكن ما إجي لهون إلاّ بالمناسبات الحزينة». ابتسم الاثنان وتفرّقا. بعد أكثر من عقد صحّت مقولة لحود، لا بسبب موت بطريرك، بل لكونها مؤشراً على موت جماعة أو وطن، لم يتأكد بعد.