رسالة وداع متأخرة إلى جوزف سماحة
رياض صوما ــ عضو المجلس الوطني للحزب الشيوعي اللبناني

رفيقي وصديقي جوزف
أعذرني لأنني تأخرت عن كتابة هذه الرسالة التي ترددت في كتابتها طوال الأسبوع ما قبل الفائت. لقد كررت تساؤلي مراراً، ماذا تنفع الكلمات بعد وقوع الكارثة؟ وفي النهاية قلت: ماذا نملك غير الكلمات في وجه القدر الذي لا يعرف خطاً أخضر أو أزرق أو أحمر؟ لقد عدت باكراً يا جوزف، الى رحم الأرض التي أحببتها حتى الثمالة. ولكنك ارتحت من عالم طالما أرقك عسفه وعنفه وظلمه، وأتعب قلبك الرقيق والحنون. أما نحن أصدقاءك ورفاقك الكثر فلم يبق لنا سوى الحسرة والألم والذكريات. من السبعينيات الصاخبة وأحلامها المستحيلة، الى آخر افتتاحية كتبتها. لا نستعيد محطات تلك المسيرة الملحمية في وجه غزاة المنطقة ومستبديها وأدواتهم، إلا برفقتك. حرارة السهرات والندوات والاعتصامات والتظاهرات والنقاشات التي لا تنتهي. النشاطات الطالبية، النشاطات العمالية والنقابية، النشاطات الثقافية والفنية والصحافية. قضايا الاشتراكية والحرية والعدالة، وفيتنام وفلسطين ولبنان والأمة العربية.... والرصاصات الأولى، التي بدت كأنها بشير فجر قريب، كانت تسكنك وكنت تسكنها. وقافلة الشهداء المستمرة على درب لم تنته بعد. كلها محفورة في ذاكرة الوطن، في ذاكرتنا، في ذاكرتي، وقد حضرت كلها لحظة غيابك. استعدت لحظة تعارفنا العابر في الاتحاد الوطني لطلاب الجامعة اللبنانية. استعدت تحياتنا السريعة على ضفاف تظاهراتنا القديمة. استعدت فترة عملنا معاً في نشرة (الوطن)، صوت الحركة الوطنية آنذاك. وكانت تلك من أولى تجاربنا في الكتابة الصحافية، أنت وأنا. ولم أفاجأ بما ردده زملاؤك وطلابك الجدد الذين عملوا معك لاحقاً، إثر غيابك المفاجئ والمفجع. فكل من عمل الى جانبك، لحظ موسوعية ثقافتك وشمولية نظرتك وجدليتها ولمس ذكاءك وصدقك ومبدئيتك ومثابرتك ونبلك ولطفك وشفافيتك وديموقراطيتك وتواضعك وحسك الإنساني.... وصدقني أشعر ببعض الندم، لأن تجربتنا الصحافية المشتركة تلك، لم تستمر فترة أطول، ولم تتكرر. مع أني أعتبر نفسي محظوظاً لأن الحياة جمعتنا في أكثر من ميدان. وكنت من بين الذين عرفوك وصادقوك وخبروا خصالك التي نادراً ما اجتمعت في شخص واحد. حتى الذين اختلفت معهم أو اختلفوا معك، في العمل أو الفكر أو السياسة، لا ينكرون خصالك، وإن لم يفهموا أو يتفهّموا دائماً أبعاد خياراتك. كان بعضهم يستغرب حبك لجمال عبد الناصر وإعجابك به، وأنت الديموقراطي غير المقتنع ولا المتحمّس لتجارب العسكريتاريا العربية. وكان بعضهم الآخر أكثر اعتراضاً على دعمك للمقاومة الإسلامية ولحزب الله، وإعجابك الشديد بقائده سماحة السيد حسن نصر الله، وأنت الماركسي الشيوعي. لم يقبلوا مضمون رسالتك المعلنة، أي إن اللبناني والعربي يستطيعان أن يكونا رافضين للسيطرة الغربية، وراغبين في الحداثة الغربية، وصديقين للقوى الديموقراطية في الغرب في الوقت عينه، وأن يكونا وطنيين ومتعاونين مع قوميين أو إسلاميين مناضلين، من دون أن يكونا أصوليين أو إرهابيين، وأن يكونا عصريين من دون أن يكونا مستلبين أو مجترين لعادات الآخرين، وأن يكونا حرين وديموقراطيين، من دون أن يكونا داعمين للمحافظين الجدد، أو موظفين لديهم، وأن يكونا مناهضين للاستبداد من دون أن يحوّلا السوريين والايرانيين الى أعداء، والصهاينة الى جيران وأصدقاء، وأن يكونا واقعيين من دون أن يكونا مستسلمين، وان يعترفا بأخطاء الممارسة الاشتراكية من دون أن يصبحا من أنصار الرأسمالية المتوحشة، وأن يتعاملا مع الواقع الطائفي في لبنان والمنطقة، من دون أن يصبحا متمذهبين أو ملحقين بقيادات الطوائف. أما نحن الذين قبلنا رسالتك، كنا صامدين الى جانبك على رغم الخيبات والهزائم. وشاركناك تفاؤلك الهادئ، على رغم قوة الأعداء وثغرات الأصدقاء. وكانت دائماً آلامك آلامنا، وآمالك آمالنا. وتابعنا بشغف تحليلاتك واستنتاجاتك، مع إطلالة كل صباح. وكنا نرى إليك مرجعاً من مراجع ضبطنا لوجهة ممارستنا الفكرية والسياسية والعملية.
غيابك، مصممون على حفظ ذكراك وصيانة إرثك، ومصرون على متابعة مشروعك/مشروعنا السياسي المشترك، الذي لم ولن يفصل بين تحرير المنطقة وتوحيدها، وبين تحررها الاجتماعي، وحرياتها الديموقراطية. نعاهدك أننا سنعمل على انتصار خيارك، عبر تعزيز دور التيار العلماني التقدمي الديموقراطي ضمن الائتلاف الوطني القومي الواسع المناهض للاحتلال الأميركي الصهيوني للمنطقة. هذا هو طريقنا لسد الفراغ الذي تركه رحيلك المؤلم. وختاماً: وداعاً أيها الرفيق والصديق الغالي.