نقولا ناصيف
لم تتراجع حظوظ مواصلة الحوار بين رئيس المجلس نبيه بري ورئيس تيار المستقبل النائب سعد الحريري، وشهد مساء أمس جولة ثالثة، لكن فحوى ما بلغته مداولاتهما لا يستعجل التوصل إلى تسوية وشيكة قبل القمة العربية في الرياض يوم 28 الجاري. وبحسب مطلعين على مسار هذا الحوار، فإن أفضل ما يعتقد الرجلان أن في الإمكان التوصل إليه حتى موعد القمة هو تكريس تهدئة وهدنة متبادلتين تنطلق منهما التسوية المتوخاة بعد القمة على النحو المتداول: حل متوازن لمشكلتي المحكمة ذات الطابع الدولي في اغتيال الرئيس رفيق الحريري وحكومة الوحدة الوطنية. ولا يسقط هؤلاء المطلعون من حسابهم احتمال التوصل إلى التسوية تلك في ضوء توازن القوى الجديد الذي ستعبّر عنه قمة الرياض والموقع الذي سيتخذه منها الرئيس السوري بشار الأسد. وقد أفلح في الأيام الأخيرة في فك جزئي للعزلة المحيطة بنظامه عربياً ودولياً. على الأقل مع معاودة الحوار المباشر بينه وبين السعودية ومصر، وكذلك حواره الدائر مع الأميركيين، ثم مع الأوروبيين غداً الأربعاء.
وبعدما رجح رأي قائل بتحقيق تسوية لبنانية داخلية تسبق استعادة كل من الأسد والعاهل السعودي الملك عبد الله الحوار المباشر بينهما، تفادياً لإدراج لبنان بنداً رئيسياً ومتفجراً في جدول أعمال القمة العربية، بدأ يغلب رأي مختلف يقول بانتظار المصالحة السعودية ــــــ السورية ــــــ إذا صحّ توقع دمشق لها ــــــ كي تنبثق منها التسوية اللبنانية. وطبقاً لذلك، يقول مسؤول بارز في تيار المستقبل إن حدود الوساطة السعودية للتسوية الداخلية هي الحوار المفتوح بين بري والحريري، في إشارة من الرياض إلى الحدود التي تفضّل من خلالها إدارة وساطتها. ويعزّز وجهة نظره هذه بالقول إنه لا أحد، في فريقه كما لدى الفريق الآخر، لمس حتى الساعة ضغوطاً مارستها الرياض على الحريري لحمله على التراجع عن شروطه للتسوية، الأمر الذي عدّه المسؤول البارز عدم رغبة المملكة في حصر ضغوطها بطرف دون آخر.
وهكذا عاد الجميع إلى لعبة العربة والحصان: أيهما يتقدّم الآخر، التسوية أم القمة؟
الواقع أن كلاً من قوى 14 آذار والمعارضة باتا يعزوان، أكثر من أي وقت مضى، تعثر التسوية إلى الخلاف على مشروع المحكمة الدولية. وخلافاً لما كان طبع موقف المعارضة قبل أشهر، وهو أن افتراقها عن الغالبية في موضوع المحكمة الدولية جزء من خلاف أوسع نطاقاً يتناول أيضاً المسألتين الرئاسية والحكومية، فإن الطرفين اليوم يريان في التفاهم على مشروع المحكمة بوابة ولوج باقي بنود التسوية. وكما يتقدم إقرار المحكمة الدولية عند فريق الغالبية أولوية مطالبه بما في ذلك الاستحقاق الرئاسي واستعداده لتجاهله موقتاً والتخلي عن ثلثي مقاعد حكومة الوحدة الوطنية، تنظر المعارضة إلى المحكمة تبعاً لبعدين متلازمين: «تنقية» بنودها من التسييس والصلاحيات المطلقة، وعدم تحوّلها عقبة في طريق إعادة بناء العلاقات اللبنانية ــــــ السورية.
وكلا الأمرين تعارضهما الغالبية. والأصح أن قوى 14 آذار تقارب إقرار مشروع المحكمة الدولية على أساس أنه وسيلة ناجعة وأقل كلفة لإعادة تنظيم العلاقات اللبنانية ــــــ السورية وفق ملاحظات، منها:
1 ــــــ أن سوريا ترفض إقامة علاقات دبلوماسية مع لبنان في ظل توازن القوى السياسي القائم حالياً، والمقصود بذلك إمساك قوى 14 آذار بغالبية الثلثين في مجلس الوزراء والأكثرية المطلقة في مجلس النواب، فضلاً عن وجود رئيس الحكومة فؤاد السنيورة على رأس السلطة التنفيذية. وسمع زوار دمشق مجدداً في الأيام المنصرمة عبارة سبق أن ذكرها مسؤولون سوريون كبار في حمأة التشنج في علاقات البلدين العام الماضي، ومفادها أن استمرار التصعيد والحملات على النظام السوري يفترض أن يؤول إلى إقفال سفارة مفتوحة. وذلك تلميح واضح إلى أن دمشق لا تكتفي برفض إقامة علاقات دبلوماسية بين البلدين في الوقت الحاضر فحسب، بل تريد مقاربة الموضوع باعتباره خطوة تالية لتطبيع العلاقات المتدهورة وقد أضحت عدائية. ولا يكتم المسؤولون السوريون أمام زوارهم انطباعات سلبية عن موقفهم من السنيورة بعد زيارة يتيمة قام بها لدمشق في 31 تموز 2005 ناقش فيها مع الرئيس السوري معالجة إقفال الحدود السورية ــــــ اللبنانية. كانت تلك الزيارة الأولى والأخيرة لمسؤول لبناني لدمشق مذ انسحب جيشها من لبنان في 26 نيسان 2005.
2 ــــــ تجد قوى 14 آذار في الجانب السياسي، غير الجنائي من مشروع المحكمة الدولية، وهو كشف قتلة الحريري ومحاكمتهم، ما يشكل ضماناً، لا لحماية المسؤولين والشخصيات اللبنانية الموالية من تعرّضهم لاعتداءات واغتيالات تبعاً لحصر هؤلاء التهمة بدمشق، بل لتحديد إطار جديد لعلاقات لبنانية ــــــ سورية متكافئة وندّية. وقد يكون هذا الجانب هو ما تعوّل عليه قوى 14 آذار بتحدّثها عن استمرار التغلغل الأمني السوري السري على الأراضي اللبنانية تارة، وبتسليح حلفائها اللبنانيين طوراً، وتقرن ذلك برفض دمشق قرارات الإجماع التي كان قد اتخذها مؤتمر الحوار الوطني بمطالبته إياها بإقامة علاقات دبلوماسية متوازنة وترسيم الحدود الدولية بين البلدين بما في ذلك مزارع شبعا.
ومع أن حكومة الغالبية لم تبادر إلى تصفية الأطر القانونية النافذة التي لا تزال تنظم العلاقات اللبنانية ــــــ السورية، وأخصها المعاهدة الثنائية والاتفاق الأمني بين البلدين، يسود أوساط قوى 14 آذار اقتناع راسخ بتعذّر إقامة حوار لبناني ــــــ سوري لتطبيع علاقات البلدين بمعزل عن ضمان دولي يكفل احترامه، أولى خطواته المبكرة المحكمة الدولية.
3 ــــــ تعتقد الغالبية أن المحكمة الدولية لا تقتصر على توفير مظلة قضائية دولية لقوى 14 آذار فحسب، بل تستكمل ما لم يوفر القرار 1559 الضمان الكافي له. ذلك أن قرار مجلس الأمن الصادر في 2 أيلول 2004، بحضه سوريا على انسحاب جيشها واستخباراتها العسكرية من الأراضي اللبنانية لم يكتفِ بتفكيك العلاقات اللبنانية ــــــ السورية على النحو غير المتكافئ الذي رسمه السوريون لها منذ عام 1990، بل أدى ضمناً إلى نتيجة معاكسة هي نشوء توازن قوى جديد في الداخل مكّن دمشق بعد انسحاب جنودها من تكريس نفوذها السياسي عبر حلفائها، وقد بات في قدرة هؤلاء المناورة والتحرك في الآونة الأخيرة أفضل من أي وقت مضى، سواء كانوا في الحكم أو خارجه. وعلى غرار القرار 1701 الذي أوصد دولياً أبواب الجنوب في وجه حزب الله وعطّل مقدرته على تنفيذ هجمات على إسرائيل وجرّده من مبررات احتفاظه بسلاحه وجدواه، تتوخى قوى 14 آذار من المحكمة الدولية إبقاء سوريا وراء الحدود الدولية، وجعلها في مواجهة المجتمع الدولي ــــــ لا في مواجهة لبنان ــــــ وهي تتلقف نتائج اغتيال الحريري سواء ارتكبت الجرم أو تكبّدت أثمانه السياسية.