نقولا ناصيف
مهّدت زيارة الممثل الأعلى للسياسة الخارجية والأمن المشترك في الاتحاد الأوروبي خافيير سولانا لدمشق الأربعاء الفائت (14 آذار) واجتماعه بالرئيس السوري بشار الأسد ونائب الرئيس فاروق الشرع ووزير الخارجية وليد المعلم، لطرح تساؤلات عن حدود قصوى لأولى خطوات فك العزلة الدولية عنها. وبالتزامن مع قرب انعقاد القمة العربية في الرياض يوم 28 من الجاري، تأمل سوريا أن تفك عنها أيضاً عزلة عربية جزئية من خلال الدور الذي يضطلع به موقعها في الملفات الساخنة المطروحة على القمّة. وهكذا تذهب إلى الرياض وسط غموض تلف به دبلوماسيتها الطريقة التي ستقارب بها علاقتها بالسعودية ومصر كما بأوروبا في المرحلة المقبلة. والجميع معنيّ بالملفين الأكثر سخونة: العراق ولبنان. أما فحوى هذا الغموض فهو: هل تتصرّف دمشق على أساس أنها منهكة بالعزلة الدولية، أم تتصوّر الآخرين يتوددون ويلهثون وراءها كي تضطلع بدور بنّاء في الملفين المذكورين؟
بحسب مطلعين عن قرب على ملف العلاقات الأوروبية ــــــ السورية، رمت زيارة سولانا لدمشق، بعد بيروت والرياض، إلى تأكيد مسألتين:
أولاهما، حضّ سوريا على التخلي عن اعتقادها بوجود تناقض أوروبي في الموقف منها، يميز وجهة نظر كل من ألمانيا وإيطاليا وإسبانيا عن وجهة نظر فرنسا. وتبعاً للمطلعين هؤلاء، فإن دمشق حاولت في مدى قريب إدخال ما بدا لها أنه تمييز فعلي بين معسكرين أوروبيين في سياق مناورة دبلوماسية توخت من خلالها النفاذ إلى حوار وعلاقات أوروبية منفصلة. الأمر الذي حمل سولانا على إبلاغ القيادة السورية أن أوروبا واحد في الموقف منها، وأنه يتحدث باسم دول الاتحاد الأوروبي مجتمعة التي تنتهج سياسة موحدة لم تتغير بعد حيالها.
وثانيتهما حضها أيضاً على الانفتاح على الخارج، بحيث تكون جزءاً من التعاون الدولي بما في ذلك في الملف اللبناني الذي تقاربه أوروبا من وجهة نظر واحدة، هي أن على دمشق الكف عن تدخلها في الشؤون اللبنانية والمساعدة في إقرار مشروع المحكمة ذات الطابع الدولي في اغتيال الرئيس رفيق الحريري. وكما يسلم المجتمع الدولي بمصالح لها في هذا البلد لأسباب جغرافية وتاريخية، عليها هي أيضاً التسليم بحسن الجوار مع لبنان طبقاً للقانون الدولي، وإقامة علاقات دبلوماسية متبادلة، والتوقف عن دعم أفرقاء لبنانيين في وجه أفرقاء آخرين وزعزعة الاستقرار الداخلي فيه.
والواقع أن اوروبا، يضيف المطلعون أنفسهم، تزن بدقة التنازلات التي قدمتها سوريا في الأشهر الأخيرة: مسارعتها إلى الانفتاح على العراق قبل استقبالها الرئيس العراقي جلال الطالباني في 15 كانون الثاني الفائت، وتوسيع نطاق التشاور المتبادل بين المسؤولين السوريين والعراقيين، إضافة إلى إبراز دورها في التأثير على خفض عدم الاستقرار في الداخل العراقي، إلى تأييدها تنفيذ القرار 1701، ودعمها، وإن ظاهراً على الأقل، محكمةً ذات طابع دولي في اغتيال الرئيس الحريري بعدما تصلبت في رفضها. لكن هذا الدعم لا يمثل إلا توقف دمشق عن الظهور مظهر المعارض للمحكمة الدولية، تاركة لحلفائها في المعارضة اللبنانية عرقلة إقرارها.
على أن وحدة الموقف الأوروبي بإزاء ما هو مطلوب من سوريا، في لبنان والعراق، لا تحجب واقع كون فرنسا، والرئيس جاك شيراك خصوصاً، تتخذ موقفاً متقدماً في المواجهة مع دمشق، يعزوه المطلعون إلى واقعتين تركتا أثراً في الرئيس الفرنسي جعلتاه على طريق مواجهة كان القرار 1559 أول محطاتها الأكثر إنهاكاً لسوريا في لبنان:
ــــــ خيبة أمل لمسها شيراك من الأسد، وهو الذي يعتقد أنه اضطلع بدور عرّاب داعم لخلافته والده الراحل الرئيس حافظ الأسد عام 2000 لدى المجتمع الدولي. وهو الدور الذي اضطلع به أيضاً حيال الأسد الابن العاهل السعودي الملك عبد الله عندما كان ولياً للعهد، إذ وفر تأييداً عربياً لخلافة الابن لأبيه وعمل على تشجيع مستثمرين ورجال أعمال سعوديين وخليجيين لتوظيف أموالهم في سوريا دعماً لرئيسها الجديد، ابن صديقه الرئيس الراحل (ويكمن هنا بالذات مقدار الاستياء والغضب اللذين قابل بهما عبد الله خطاب الأسد في 15 آب 2006 عن «أنصاف الرجال»).
كان شيراك قد استقبل الأسد الابن قبل عام من وفاة والده في 1999 كمن يستقبل رئيساً لسوريا. ثم استقبله في السنة التالية في زيارة دولة على نحو أراد شيراك من الأسد الابن التعامل معه على أساس أنه يمثل واقعاً جديداً يطوي صفحة الحقبة السورية ــــــ المتشددة والمنغلقة في معظم مراحلها ــــــ في عهد الأسد الأب. وانطلق موقفه هذا من بضعة وعود كان الرئيس السوري الشاب قد تعهّد تنفيذها للرئيس الفرنسي بناء على طلب الأخير وتركزت على خيارين: إدخال إصلاحات أساسية في النظام السوري للانتقال به إلى دور جديد أكثر انفتاحاً وتعاوناً مع المجتمع الدولي، ومباشرة خطوات ملموسة لإنهاء الوجود العسكري لبلاده في لبنان. وفي العامين الأولين من ولاية الأسد الابن، اتخذ بضعة إجراءات بإعادة نشر ألوف من الجنود السوريين في لبنان أو سحبهم إلى بلادهم.
غير أن الرئيس الفرنسي ما لبث أن شعر بنكوث تلك التعهّدات بعدما تراجع الأسد عن إدخال إصلاحات اقتصادية وسياسية على النظام السوري، وعمل في المقابل على تضييق هامشي الديموقراطية وحرية التعبير في الداخل السوري، إلى أن انتهى الأمر بتجميد إخراج جيشه من الأراضي اللبنانية وممارسة مزيد من القيود السياسية في لبنان أفضت إلى التمديد للرئيس إميل لحود، في حمأة خلافات كانت قد بلغت إلى شيراك، وسّعت من شقة الخلاف بين الرئيس السوري والرئيس السابق للحكومة اللبنانية.
وبحسب ما يرويه المطلعون أنفسهم، فإن أكثر من جهة سورية كانت قد نقلت إلى الرئيس الفرنسي، في أوقات متفاوتة من الأعوام الثلاثة الأولى من حكم الأسد، أن الأخير يقود معارك قاسية من داخل النظام لتحقيق الإصلاحات الاقتصادية والسياسية المرتجاة، تارة مع طبيعة النظام المغلق والمتعب بسيطرة حزب البعث ورجاله عليه لأعوام طويلة لم يعد معها يتقبل التغيير بسهولة، وطوراً مع «الحرس القديم» للأسباب نفسها. كان يقال أيضاً ان التكتم عن كشف هذه المعارك للخارج يدخل في صلب حماية هيبة النظام والرئيس. كانت ثمة أصداء أخرى تصل إلى آذان باريس تطرح معادلة راجت عن الطريقة التي حكم بها الرئيس السوري في الأعوام الأولى، وكان الأميركيون وخصوم الأسد يغذونها، ومفادها: أين تكمن مشكلة الرئيس، في أنه لا يريد أم لا يقدر؟
ــــــ العلاقة الشخصية التي ربطت شيراك بالحريري وعائلته على نحو حمل الأول على التعامل مع إنشاء المحكمة ذات الطابع الدولي على أنها قضيته الشخصية حيال آل الحريري، والسياسية حيال لبنان لكشف قَتَلة صديقه الرئيس السابق للحكومة. وأتى الاشتباه بدور لسوريا في الجريمة، كأنه توجيه الاشتباه إليها في بقية الجرائم والتفجيرات مذ أخرجت جيشها من لبنان في نيسان 2005 على نحو اعتبرته مذلاً وتحت وطأة إرغامها على تنفيذ القرار 1559، ليعزز دوافع انهيار العلاقة بين الرئيس الفرنسي والقيادة السورية.