جان عزيز
من آخر النوادر الحقيقية والواقعية التي تتناقلها أوساط الرابطة المارونية، أن إحدى اللوائح المتنافسة في انتخاباتها المقبلة، بادرت إلى تسديد اشتراكات عشرات الأعضاء من النخب المارونية المتخلّفة عن ذلك طيلة أعوام. والمفارقة أن أحد الذين سدّدت اشتراكاتهم بالجملة، أقعده المرض منذ مدة طويلة، وقد لا يقدر المسدّدون على الإفادة من «هبتهم»، إلاّ إذا كان المال قادراً على اجتراح المعجزات الفردية، كما فعل جماعياً في لبنان، طيلة الأعوام الماضية...
انتخابات الرابطة المارونية المقررة في 25 آذار الجاري، رئيساً ونائباً للرئيس و15 عضواً لمجلسها التنفيذي، قد لا تعني الجمهور العريض للموارنة في لبنان. فهي أصلاً هيئة نخبوية، أعضاؤها سبعمئة ونيّف لا غير، من بين أكثر من 700 ألف ماروني في لبنان. أي بنسبة تمثيل عيني «نخبوي»، مقدارها واحد إلى ألف.
غير أن هذا الاستحقاق يلقي الضوء بالنسبة إلى المراقب السياسي السوسيولوجي، على واقع صناعة النخب المارونية وتجديدها، وآلية دخولها في فضاء الشأن العام.
مع نشوء لبنان الكبير عام 1920، وطيلة عقدي الانتداب اللذين أسسا للطبقة السياسية الحاكمة مع فجر الاستقلال، بدا أن ثمة نخبة مسيحية عموماً، ومارونية خصوصاً، عرفت كيف تتكيّف مع المرحلة وتستفيد من فرصها السانحة والسهلة نسبياً في حينه. لكن الأهم أن هذه النخبة المتبلورة آنذاك توافرت فيها ثلاثة عوامل متلازمة متضافرة. أولاً الانتماء إلى عائلة معروفة، من دون أن يجنح هذا العامل صوب شرط الانتماء إلى «البيوتات» الإقطاعية الكبرى. ثانياً الانتماء إلى طبقة البورجوازية الوسطى أو الصاعدة، في غياب أقلية الرأسمالية الكبرى، أو «الهيبر أثرياء». وثالثاً الانتماء إلى طبقة المتخرجين الجامعيين من المعاهد القليلة المتوافرة آنذاك، وفي طليعتها «اليسوعية» و«الإنجيلية» أو الأميركية.
هكذا بدت طبقة سياسيي الأربعينيّات في غالبيتها الساحقة، ومع توزعاتها المختلفة من «دستورية» أو «وطنية»، متمتعة بهذه الصفات الثلاث، وملتزمة تلك الجانبية السوسيو ــــــ ثقافية الطاغية: ابن عائلة معروفة أدنى من «البيت الإقطاعي»، وابن بيت «مرتاح» مالياً، أقل من الرأسمالي، ومتخرج أحد ذينَك المعهدين.
بعد الاستقلال بدأ يتبلور فشل الجمهورية الأولى في سيرها نحو الديموقراطية السليمة والسويّة. غياب الأحزاب، تكلّس البنى الدستورية للنظام، تزايد الانتماءات الجماعية، يضاف إليها عدد من عوامل التأثير الإقليمي، وخصوصاً بعد نشوء إسرائيل واستعارِ القضية الفلسطينية... كل ذلك أدّى إلى وأد «ديموقراطية الاستقلال» الفتية، وقتل الدينامية السياسية للنخب القائمة. فلم تلبث أن تجمّدت وانخرطت في بنية نظام أكثر تخلّفاً. انحدرت العائلات المعروفة صوب «البيوتات». وسقطت البورجوازية الصغيرة في درك الرأسماليات الأكبر. وتدنى المستوى العلمي، أو لم يعد شرطاً ضرورياً واجب الوجود.
هكذا وطيلة العقدين التاليين للأربعينيّات، وحتى ما قبل اندلاع الحرب، تبدّلت تدريجياً صورة الطبقة السياسية المسيحية، وخصوصاً المارونية. ومع تبدّلها هذا، تبلورت ثلاثة «مداخل» شبه حصرية لولوج الملتزمين بالشأن العام، إلى مجال العمل السياسي الفعلي، وتحديداً إلى المناصب والمراكز. الكنيسة مثّلت أحد المداخل تلك، والدولة نفسها عبر آلية تعيين محظوظي الفئة الأولى، وظلت «البيوتات» السياسية مدخلاً ثالثاً ثابتاً وفاعلاً.
وبدا أن استئثار هذه المسالك الثلاثة نجح إلى حد كبير في الصمود أثناء الحرب. وإن كان قد عرف استثناءات لقاعدته. منها حركة بعض الأحزاب القليلة، وأبرزها حزب الكتائب، الذي أوصل إلى الندوة النيابية مغمورين «عصاميين» في أكثر من دائرة مارونية ومسيحية. والاستثناء البارز الآخر، كان تحوّل العمل العسكري مسلكاً جديداً إلى «النادي السياسي الماروني»، وخصوصاً عند الأزمات، كما في عامي 1958 و1989، أضيف إليه العمل العسكري «الثوري»، أو من خارج مؤسسة الجيش، طيلة أعوام الحرب.
بعد 13 تشرين الأول 1990، تصحّرت الساحة المسيحية، ولم يعد يصحّ البحث في بناها. بينما ترسّخت الجماعة الدرزية في «بيوتاتها» وخرجت الجماعة الشيعية إلى حالة النخب الجهادية، وركدت غالبية السنّة في ظاهرة المالية السياسية. وظل المسيحيون والموارنة خارج تلك الأطر. لا بسبب رفضهم أو تميّزهم، بل لأنهم استنقعوا في الموات السياسي زمن الوصاية.
بعد إنجاز السيادة واستعادة الدينامية المسيحية تدريجاً، بدت النخب المارونية خليطاً هجيناً من كل ما سبق: العسكري «الرسمي» والعسكري «الميليشياوي»، البورجوازية والبيوتات، التواضع الثقافي وقلة قليلة من «الحاجات الثقافية». وحدها المالية السياسية لم تظهر بين السياسيين الموارنة.
اليوم، بعد 87 عاماً على لبنان الكبير، و32 عاماً على الحرب، يستعدّ الموارنة لاستقبال نخبة «المالية السياسية» عبر الرابطة المارونية. أو هي «حريرية مارونية» انتظرت هزيمة الآخرين لتنتصر، تماماً كما فعلت مثيلاتها لدى الجماعات الأخرى. فهل تنجح؟ مسألة تستحق المتابعة.
هذه الأفكار مهداة إلى جوزف.