عمر نشابة
لم يذكر تقرير لجنة التحقيق الدولية المستقلة السابع بعض الدوافع التي ذكرتها التقارير السابقة، ومنها «قصّة زيت الزيتون» وبنك المدينة والدوافع الشخصية، بينما ركّز على الدوافع السياسية وتلك المرتبطة بالأعمال. لكن التحقيقات ما زالت بعيدة عن حسم مسألة دوافع الجريمة التي تبدو للجنة «معقدة ومتعددة المظاهر»

تناول التقرير السابع للجنة التحقيق الدولية المستقلّة في جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري والجرائم الأخرى دوافع ارتكاب الجريمة. ومن خلال جمع اللجنة لأدلة ومعلومات تعود إلى الأشهر الخمسة عشر الأخيرة من حياة الرئيس الحريري، استنتجت اللجنة أن «الصورة» التي تمكّنت اللجنة من «تركيبها» بهدف تحديد الدوافع «معقّدة ومتعددة المظاهر وتقدم جزءاً من خلفيات الدوافع خلف قرار اغتياله.» وأضافت اللجنة في الفقرة نفسها أن «هذا الحيّز من تحقيقات اللجنة ما زال قائماً، ويستبعد إكماله في فترة التحقيق المقبلة نظراً للقدر الكبير من العمل المطلوب» (52). وفي الفقرة التالية (53) يذكر التقرير بعض «الأمور التي ميّزت أجواء الحريري خلال تلك الفترة (15 شهراً قبل اغتياله)» وهي «صدور القرار 1559 (...) والتبعات السياسية لتطبيقه وتمديد ولاية الرئيس إميل لحود والتجاذبات الشخصية والسياسية القائمة بين الحريري وأحزاب وشخصيات سياسية في لبنان وسوريا ودول أخرى والتحضير للانتخابات النيابية التي كانت مقررة في أيار 2005، بالإضافة إلى دوافع متعلّقة بالأعمال.» وتدرس اللجنة «فرضية عمل» (WORKING HYPOTHESIS) وهي أن «الذين قرروا اغتيال الحريري اعتبروا أن قتله سيكون مفيداً قبل بدئه بحملته الانتخابية، وبخاصة أن وسائل الإعلام في ذلك الوقت كانت ترجّح فوزه». (الفقرة 59) كما تدرس اللجنة «فرضية عمل» أخرى أكثر تعقيداً مبنية على أنه كانت هناك محاولات محلّية ودولية للتقريب بين الحريري وخصومه وتخفيف الاحتقان السياسي الذي كان سائداً، وأن قرار اغتياله تزامن مع تلك المحاولات. ويذكر نصّ التقرير أن ذلك يفترض وجود مسارين، «ليسا بالضرورة متّصلين»، بل متوازيين. أحدهما يفترض أن الحريري كان موضع مبادرات تقريب من السوريين، فيما المسار الآخر يفترض عملية التحضير لاغتياله. إذا قمنا بعملية مراجعة للتقارير السابقة نلاحظ فرقاً واضحاً بينها في البحث عن دوافع الجريمة والتعبير عنها.
لنعد إلى بداية التحقيقات في جريمة اغتيال الحريري لدراسة تلك المتغيّرات:

بين «تقصّي الحقائق» والتقرير السادس

ذكرت لجنة تقصّي الحقائق (24/3/2005) برئاسة بيتر فيتزجيرالد أنه «من الجليّ أن اغتيال السيد الحريري حدث على خلفية صراع القوى بينه وبين الجمهورية العربية السورية، بصرف النظر عمّن نفذ الاغتيال أو الغرض من تنفيذه. ومع ذلك، فمن المهم ألّا يغيب عن البال أن التحقيق السليم وحده ـــ لا التحليل السياسي ـــ هو الذي يمكن أن يؤدي إلى تحديد هوية الذين أمروا وخططوا ونفذوا هذه الجريمة النكراء. فالقفز إلى الاستنتاجات بشأن مرتكبي عملية الاغتيال بدون إجراء تحقيق سليم وبدون أدلّة مقنعة ومحاكمة سليمة، يعدّ انتهاكاً للمبادئ الأساسية للعدالة» (15). وتستوجب هذه الفقرة التوقّف عندها، إذ تحدّد الفرق بين «الخلفية السياسية» أو «المناخ السياسي» الذي كان سائداً وبين «الدوافع الجرمية». وبعد سنة وتسعة أشهر تقريباً على عمل لجنة تقصّي الحقائق، توسّع المحقّق سيرج براميرتس في توضيح هذا الفارق في الفقرة 59 من تقرير اللجنة السادس حيث ذكر «فرضية أخرى قيد الاعتبار، وهي أنه استخدمت دوافع تبدو واضحة من قبل الضالعين في الاغتيال كغطاء مناسب، مع وجود قصد دفع أفراد آخرين إلى واجهة الاتهام».

تشابه بين التقرير الأول والتقرير السابع؟

أما التقرير الأول للجنة التحقيق (19/10/2005) فذكر أنه «على الرغم من كلّ التدابير والجهود التي قامت بها اللجنة، لم تبرز أي أدلّة أو قرائن متينة في ما يتعلّق بدوافع وأسباب اغتيال السيد الحريري، عدا تلك التي يمكن أن تعزى للأحداث التي تخلّلت النصف الثاني من عام 2004، والتي أفضت في نهاية المطاف إلى قرار السيد الحريري بالتنحّي عن منصب رئيس الوزراء والتكهّنات لنتائج الانتخابات العامّة في لبنان. ومن المؤشّرات القويّة على هذه المسألة الأخيرة الحملة الانتخابيىة الواسعة النطاق لحزب المستقبل؛ وردّ فعل السلطات اللبنانية على قضية زيت الزيتون، في شباط 2005، وهي القضية التي تمّ فيها إلقاء القبض على الموزّعين؛ وأخيراً وليس آخراً النتائج الفعلية للانتخابات» (الفقرة 94). ويبدو أن هناك تشابهاً بين تلك الفقرة وبين الفقرة 53 من التقرير السابع المذكورة في مطلع هذا المقال. لكن علاقة «تشابه» بين الفقرتين لا تعني أنهما تعبّران عن المعنى نفسه. فتقرير اللجنة الأول (برئاسة ديتليف ميليس) يستثني من النفي ما هو مذكور في الفقرة 53 من التقرير السابع (ما عدا قضية الزيت). وهذا يعني أن تقرير ميليس الأول يؤكّد على حصول اللجنة على «أدلّة أو قرائن متينة» بما يتعلّق بدوافع مرتبطة بالانتخابات العامّة، بينما يقول التقرير السابع الذي صدر أخيراً (سنة وخمسة أشهر تقريباً من التحقيقات المتواصلة بعد صدور التقرير الأول) أن الدوافع المتعلّقة بالانتخابات ما زالت في خانة الفرضيات.

«دوافع شخصية» ومالية؟

ينص التقرير الثاني على أن «اللجنة لا تزال على رأيها الذي أعربت عنه في تقريرها السابق بأنه كان هناك عدد من الدوافع الشخصية والسياسية وراء اغتيال السيد الحريري. وقد دعمت صحّة هذا الرأي في نواح عدّة، أدلّة وإفادات يجري الحصول عليها» (الفقرة 91) لكن التقرير الأول لا يذكر أي دوافع يسمّيها «شخصية» وراء اغتيال الحريري. فالدوافع الشخصية للاشتراك في عملية اغتيال قد لا تقتصر على «غش وفساد وتبييض أموال». كما إن القيام بعمليات «غش وفساد وتبييض أموال» قد لا يكون بدوافع شخصية. وينصّ التقرير الأول على «أن الاغتيال ليس عمل أفراد، بل عمل مجموعة، ويبدو أنها مسألة غش وفساد وتبييض أموال، وهذا يمكن أن يكون دافعاً لأفراد للاشتراك في العملية». (الفقرة 204). وتنصّ الفقرة 68 من التقرير الثاني على الآتي: «ربّما شكّل الغش والفساد وتبييض الأموال أيضاً دوافع للأفراد على الاشتراك في العملية التي انتهت باغتيال السيد الحريري. وأثناء التحقيق، تتبعت اللجنة خيوطاً أدّت الى الانهيار المالي لمصرف المدينة في منتصف عام 2003، وشملت صلات بمسؤولين لبنانيين وسوريين وكذلك بالسيد الحريري.»
أما في التقرير الرابع فنلاحظ استكمالاً للبحث في دوافع شبيهة، فتوسّعت اللجنة برئاسة براميرتس في التحقيق في الدوافع المذكورة في الفقرة 54: «في ضوء ما كان السيد الحريري يقوم به من أنشطة عديدة وما كان يتولاه من مناصب بارزة، تحقق اللجنة في احتمال وجود دوافع سياسية وبواعث انتقام شخصية وظروف مالية وأفكار عقائدية متطرفة، فضلاً عن أي مزيج من تلك الدوافع، وذلك لتضع فرضياتها بما يتعلق بالدوافع المحتملة لدى الأشخاص الذين أمروا بارتكاب الجريمة». لكن التوسّع في التحقيق في «بواعث انتقام شخصية وظروف مالية» كما التوسّع في التحقيق في دوافع مرتبطة بالأعمال (BUSINESS MATTERS IN WHICH HE -HARRIRI- WAS INVOLVED) يتطلّب بحثاً مفصّلاً في التبادل المالي والحسابات المصرفية للشهود والضحايا على حدّ سواء. وذلك يتطلّب رفع السرّية المصرفية عن تلك الحسابات وطلب كشف مفصّل على الأملاك والأموال المنقولة وغير المنقولة.

تركيز «الخامس» على دوافع غير سياسية

لم تستبعد اللجنة في تقريرها الخامس أن تكون أسباب اغتيال الحريري شبيهة بالأسباب التي أدّت الى ارتكاب الجرائم الـ14. وتعتبر اللجنة أن هذه الأسباب يبدو أنها «دولية ومحلية ووطنية» وأنها مرتبطة بشؤون «سياسية واقتصادية ومالية وتجارية». وذكر التقرير قضية بنك المدينة. أما الأسباب المحتملة غير السياسية الأخرى، فقد ذكر التقرير لأول مرّة «عوامل إعلامية» كدافع لارتكاب الجريمة. ويشير ذلك الى تطرّق التحقيق الى تحليل المعلومات التي تناقلتها الوسائل الإعلامية المحلية والدولية عن رفيق الحريري وتأثير الإعلام على نظرة المتابعين لنشاطاته وتوجهاته وسياسة الحريري ونشاطاته. أما في الدوافع السياسية فيذكر التقرير احتمال ارتباطها بصدور قرار مجلس الأمن 1559 الذي سبق الاغتيال وشأن الانتخابات النيابية. وعلى المستوى الشخصي، تحدّث التقرير عن علاقات الحريري بسياسيين وبـ«أشخاص آخرين» لم يحدّدهم (56). ورجّح تقرير اللجنة الخامس أن لا تقتصر دوافع الجريمة على جانب واحد، إنما الدوافع متنوّعة وعديدة.