نقولا ناصيف
بعد عشرة أيام، تنعقد القمة العربية في الرياض، يوم الأربعاء 28 الجاري. وبعد سبعة أيام، الأحد المقبل، يجتمع وزراء الخارجية العرب تمهيداً لقمة الملوك والرؤساء العرب. هامش الوقت إذاً بات يضيق أمام رئيس المجلس نبيه بري ورئيس تيار المستقبل النائب سعد الحريري للتوصل إلى تسوية للنزاع القائم بين قوى 14 آذار والمعارضة. في الجولات الخمس الأخيرة قبل 12 يوماً، لم يتفق الرجلان إلا على آلية مبدئية: حل متزامن لمشروع المحكمة ذات الطابع الدولي في اغتيال الرئيس رفيق الحريري وتأليف حكومة وحدة وطنية، بحيث يعلن الاتفاق عليهما معاً، لكن لا حل لأحدهما دون الآخر، وإخفاق حل المشكلة الثانية يجعل الطرف المعني في حِل من التزام ما يكون قد اتفق عليه للمشكلة الأولى.
في سياق رسم ملامح هذا التزامن، طالب الحريري بري بضمانات تحافظ على التزامن ولا تعرّض إقرار المحكمة الدولية لخطر الإخلال بها إذا اتفق على حكومة الوحدة الوطنية. ردّ رئيس المجلس بأن المعارضة هي التي تطالب بضمانات كون الفريق المعني والأقدر على تقديمها هو قوى 14 آذار التي تمسك بالأكثرية المطلقة في مجلس النواب، وهي تمكّن الحكومة الجديدة من الحكم عبر منحها الثقة أو الحؤول دونها. وكان اتفاق الرجلين على التسليم بحل متكامل للمحكمة الدولية والحكومة الجديدة أو لا حل. كان كل منهما بذلك يضمر موقفاً هو أن الثقة بينهما لا تزال مفقودة. وعلى هذا النحو اصطدما بالعقبة الرئيسية: نصاب الحكومة الجديدة.
حتى ذلك الوقت، كان رئيس المجلس قد اختصر لرئيس تيار المستقبل لبّ المشكلة: الاتفاق على الحكومة سيكون أصعب من الاتفاق على المحكمة.
وهكذا تكون خلاصة الجولات الخمس بين بري والحريري أن شيئاً ملموساً لن يتحقق قبل القمة العربية، ما دامت عربة المحكمة الدولية تنتظر حصان حكومة الوحدة الوطنية.
يقترن ذلك بإشارات ثلاث:
أولاها أن دون المصالحة بين العاهل السعودي الملك عبد الله والرئيس السوري بشار الأسد عقبات، بعضها شخصي (خطاب الأخير في 15 آب 2006)، والآخر سياسي (موقف القيادة السورية من المحكمة الدولية). أضف أن دمشق، إذ تُقارب الجانب الشخصي في الخلاف على نحو مغاير للرياض التي تطالب باعتذار علني، تجد في الجانب السياسي منه ما يحملها على مراعاة مصالحها، وهو ألا تكون هدفاً سياسياً عبر محكمة جنائية. وتداركاً للجانب الشخصي أوضح الرئيس السوري لوزير الدولة السعودي لمجلس الوزراء عبد الله الزينل لدى استقباله إياه وتسلمه دعوة العاهل السعودي إلى القمة العربية فحوى العبارة. وهو أن «أنصاف الرجال» الذين قصدهم الأسد هم «بعض المسؤولين العرب المترددين»، ملمحاً إلى مسؤولين وسياسيين لبنانيين. بدا مهتماً أيضاً بتذكير محدّثه بعلاقة عميقة وطويلة جمعت والده الرئيس الراحل حافظ الأسد بالملك عبد الله عندما كان وليّاً للعهد، وأنه لا يستطيع مخاطبة صديق لوالده إلا بما يخاطب به والده.
وثانيها أن دمشق، بعد دورها الفاعل في التوصل إلى اتفاق مكة بين الفلسطينيين، ليس لديها ما تقدمه في لبنان إلى السعودية ومصر قبل تنقية علاقاتها بهما تماماً, وقبل التأكد من تعزيز موقع حلفائها اللبنانيين في توازن قوى جديد داخل الحكم.
وثالثها أن الفريق الإقليمي الآخر في النزاع الداخلي، أي إيران، حسم خياره القائل بتأييد كل ما يريده حليفه حزب الله من التسوية المطروحة، ولكن من غير تدخل إيراني مباشر في الشأن اللبناني.
مفاد ذلك إرباك مداولات القمة العربية وربما تعريض بيانها الختامي لسجالات على مستوى تحقيق إجماع عربي على مضمونه.
والواضح أن ما تحقق في الحوار حتى الآن لا يقود إلى تسوية لأسباب، منها:
1 ــــــ وجود خلاف جوهري على النصاب القانوني الذي ستتألف منه حكومة الوحدة الوطنية. إذ لا يزال الحريري يرفض ما يرى بري أنّه شرط للتسوية، وهو إعطاء المعارضة الثلث زائد واحداً في الحكومة الجديدة. وفي الجولة الرابعة رغب رئيس المجلس في وضع حد لما رأى أنّه «سخرية» باتت تحيط بمداولات جولات الحوار، وللمماطلة التي وجدها غير مبررة في تأخر الفريق الآخر في تحديد إجاباته عبر القفز من مشكلة إلى أخرى دون استنفاد البحث اللازم والتفلّت في الوقت نفسه من إعلان قوى 14 آذار استعدادها للموافقة على نصاب 19 + 11 للمعارضة في حكومة الوحدة الوطنية. وفي كل مرة طرح فيها بري السؤال، أحال الحريري تحفظه على رفض حلفائه، وأبرزهم الفريق المسيحي في قوى 14 آذار، التنازل عن الثلث زائد واحداً. من جولة إلى أخرى أمل بري أن يتلقّى جواباً نهائياً، إلى أن طلب من رئيس تيار المستقبل ألّا يعود إليه في جولة خامسة بلا جواب عن الشرط الأساسي للمعارضة، وهو أن لا تسوية في شأن باقي الملفات بما في ذلك المحكمة الدولية، دون تسليم نهائي بالثلث زائد واحداً للمعارضة.
لكن شيئاً من ذلك لم يحصل.
2 ـــــ ما كان قد تقرّر في مشروع المحكمة الدولية لا يعدو كونه آلية لمسار مفترض سيسلكه المشروع عبر اللجنة المشتركة المكلفة تعديله وإقراره مجدداً في الحكومة الجديدة، وصولاً إلى التصويت عليه في مجلس النواب. وبحسب مطلعين على مداولات الحوار، فإن الغبار الذي أحاط بالملاحظات التي تعتزم اللجنة المشتركة مناقشتها، كون حزب الله لم يكشف عنها حتى الآن ولم يطرحها للمناقشة العلنية على الأقل، لم يعد ذا أهمية. كما أن الملاحظات لم تعد هي الأخرى سرية تماماً. عدا عن أن رئيس المجلس طمأن رئيس تيار المستقبل إلى أن التعديلات التي تقترحها المعارضة، ويحجب حزب الله مسودتها إلى أن تناقش على طاولة اللجنة، لن تعرّض مشروع المحكمة للتجويف، ويتصل بعضها الرئيسي بعلاقة المرؤوس بالرئيس والمحاكمة الغيابية وتأليف المحكمة وصلاحيات الادعاء.
في ضوء تسليم طرفي الحوار بأن مشروع المحكمة الدولية لم يعد مشكلة، أبرز الحريري غداة الجولة الرابعة (15 آذار) من القاهرة منحى إيجابياً حيال التوافق على مسار إقرارها، بتأكيده أنها ليست مطروحة للمقايضة، وأن الأفرقاء اللبنانيين جميعاً مع إنشائها. وحدد في المقابل صلب الخلاف الذي هو الحكومة.
مغزى ذلك، أن كلّاً من طرفي النزاع لا يريد من التسوية إلا ما يُشعر به أنصاره بأنه حقق على خصمه مكسباً سياسياً، أو على الأقل منعه من فرض التنازل عليه.
على نحو كهذا، في ظل استعصاء التوصل إلى تسوية، يبدو الطرفان قد نجحا فعلاً في تكريس توازن قوى جديد يقوم على قاعدة «لا غالب ولا مغلوب»: لا حكومة ولا محكمة.