جان عزيز
وأخيراً تأكدت المعارضة، أقلّه الشق المسيحي منها، أن لا حلّ ولا تسوية ولا من يسعون. وبات الاقتناع راسخاً لدى المعنيين بأن ما يجري عملية «بلف» سياسي، في انتظار شيء أو أشياء ما، أو للتغطية على رهانات أو حسابات ما، أو الأدهى تعبيراً عن تعنّت لا يمكن البوح به ولا تبرّره أيّ من الأدبيات المعلنة أو الممكن إعلانها.
أخيراً حسم المعارضون المسيحيون اقتناعهم حيال الجدلية التي خالطتهم طوال أسبوعين: هل قرّر فريق السلطة السير في التسوية، وما نشاهده محاولات لإيجاد مخرجها اللائق؟ أم قرّر هذا الفريق السير نحو الصدام وما نشهده مجرّد مناورات لتقطيع الوقت ورفع المسؤولية؟ الطرف الثاني من المعادلة الجدلية بات الحقيقة لدى المعارضين، وباتت تزكية المعطيات والمعلومات كلها. وهو ما طرح في أوساط هؤلاء ثلاثة أسئلة: ما الذي يؤكد عدم وجود التسوية؟ إلامَ تستند السلطة في موقفها هذا؟ وما هي حسابات نبيه بري في هذا السياق؟
حول السؤال الأول، تؤكد أوساط المعارضة المسيحية أن «عوارض» إجهاض المساعي التسووية كثيرة. منها خروج وليد جنبلاط عن صمته الذي أعقب محطتيه في واشنطن وباريس. ومنها ارتياح فؤاد السنيورة بعد أيام ضيق مرّت عليه، خصوصاً في علاقته بأركان الفريق التابع له. ومنها عودة شارع السلطة إلى حركات التوتير العنفي والميداني شمالاً وبقاعاً وعاصمة. هذا في الداخل، أما خارجياً فقد بدأت تتفكك شيفرة الموقف المصري الداعم لشرعية الحكومة والمطالب بتطبيق القرارات الدولية ذات الصلة بالوضع اللبناني من الـ1559 وحتى الـ1701. وبدأت تتضح علاقة هذا الموقف بتنسيق «الرباعية العربية» عشية استحقاقات القمة ووصول كوندوليزا رايس الى المنطقة.
غير أن معلومات متسرّبة عن اجتماعات بري ــ الحريري، تفيد أنه لم يكن المعارضون في حاجة إلى الاستقراء والاستدلال، لإدراك الطابع «البحصي» للطبخة المنشودة. ففي النهاية قال «فارس الشرف» الفرنسي الأخير، إنه لا استعجال لأي حل، ولا ضغط يفرض أي طرح، ولا مأزق يقتضي أي مقترح أو تسوية. كل الأمور يمكن أن تنتظر، خصوصاً ما تحدثت عنه بكركي لجهة قانون الانتخابات. وكان واضحاً أن استئخار «المكرّم الشيراكي»، جاء بعد جسّه النبض المصري حيال ما حمله فاروق الشرع إلى القاهرة، كما جسّ النبض الأوروبي إزاء ما عاد به خافيير سولانا من دمشق. فباتت المحصّلة النهائية لواقع الحال: اثبتوا في مواقفكم ومواقعكم، لا الرياض «تمون»، ولا الموازين تقتضي، أما النيّات فأصلاً على يمين كل الحسابات، السابقة أو اللاحقة.
لكن، إلامَ يستند فريق السلطة في تعنّته هذا؟ تردّ أوساط المعارضة على هذا السؤال الثاني بالاعتقاد أن رهان الفريق النواتي للحكم القائم على ضربة عسكرية أميركية إلى إيران، لا يزال سيّد الموقف. منه تنبثق الرهانات الفرعية الأخرى، عراقياً وسورياً وجنوبياً ومحكمة وداخلاً لبنانياً.
هذا في الحد الأقصى، أما في الحد الأدنى فيبرز الحرص على تأخير أي بحث في أي تسوية، أقصى حد زمني ممكن. بحيث يقترب أوان احتمالها من البداية المنطقية لمرحلة البحث في الاستحقاق الرئاسي. عندها يصير الإدغام بين المسألتين أمراً أكثر ترجيحاً أو حتى وجوباً. وعندها يصير هامش المناورة والتبادل البازاراتي أكبر، داخلياً وخارجياً، بما يساعد على تخفيض سقف بكركي في الملفين اللذين يعنيانها: قانون الانتخاب وشخص الرئيس المقبل.
يبقى السؤال الثالث، ما كانت حسابات نبيه بري وسط هذه الصورة التسويفية؟ وهل كانت القوى المعارضة على اطّلاع كامل على خلفيات مثابرته في الحوار، رغم مؤشرات عبثيته ومماطلة محاوريه؟ تجزم أوساط المعارضة أن بري «لعبها نظيفة» في شكل كامل مع حلفائه. فهو من البداية كان قد وضع نفسه والفريق الذي ينتمي إليه، في إطار «الحلول الفرضية» التي تصوّرها وعمل من ضمنها. ذلك أن رئيس المجلس النيابي، كما تعتقد أوساط المعارضة، لم يكن ولا في أي لحظة مغشوشاً أو موهوماً. كما انه لم يغش أو يوهم أياً من حلفائه أو حتى محاوريه. فهو كان يتكلم مع الجميع في العمق بلغة الاحتمالات والفرضيات لا غير. ومفاد خطابه التالي: إذا كان صحيحاً أن آلية القمم المتلاحقة: قمة عبد الله ــ نجاد، و«قمة» بغداد حول الوضع العراقي، والقمة العربية المقبلة، و«قمة» التسوية الفلسطينية، ستؤدي إلى مناخ تسوية في لبنان، فعلينا أن نكون جاهزين داخلياً لملاقاته. إذ لا يمكن أن نترك الخارج يفاجئنا بفرصة حلحلة، لنواجهه إذذاك بأننا لم نقم بفرضنا اللازم لبلورتها. أما إذا اجتازتنا آلية تلك القمم من دون عدوى لبنانية، فلنكن مهيأين للاستمرار في إدارة الأزمة، أو حتى الحد من الأضرار في أسوأ التقديرات.
ولا تخفي الأوساط نفسها أن ثمة عاملاً ثانوياً آخر، وشخصي الطابع، كان قائماً في حسابات بري أيضاً، وهو الحركة على خط الهجوم المتقدم في التسوية، لإراحة نفسه على خط دفاعه الخلفي في مسألة العقد العادي للمجلس وكل ما يتصل به من ضغوط...
أما بعد، فلقد ظهرت الحقائق، وما لم يطرأ تبدّل جذري، الأمور من هنا نحو المراوحة المفتوحة على مواجهات جزئية متنقّلة، في انتظار رهانات السلطة.