أنجلو البعيني
نسج بائع العلكة «أبو العبد 1701» صداقات مع طلاب كلية الآداب والعلوم الإنسانية ــــ الفرع الرابع في الجامعة اللبنانية. فبات الطلاب يستقبلونه في كافيتريا الكليّة ليستمتعوا بتنظيراته حول السياسة والسياسيين

يتناسى محمّد أنّه «بائع علكة متجوِّل» لدى وصوله عتبة كافيتريا كلّية الآداب والعلوم الإنسانية ـــــ الفرع الرابع، فالصداقة مع طلّاب الكلّية تطغى على «الزبائنية». يُعرِّف بائع العلكة عن نفسه بالقول: «أنا محمد كمال الترك، أو «أبو العبد 1701» - كما يفضِّل أن يُلقَّب، نسبة إلى رقم سجلّه المتطابق مع رقم القرار الدولي الشهير، أوصلتني مرارة الأيام إلى باب جامعتكم لأبيع «حبة العلكة» من أجل إطعام أولادي».
لا تخلو إطلالة محمد بزيّه التراثي اللبنانيّ من الظرافة: طربوش أحمر، شال رسم عليه علم لبنان من الجانبين، وشاربٌ كثيف وطويل يلامس نظّارتهيتجمهر» الطلاب حول «أبو العبد » في كافيتريا الكلية، إما رغبةً في اكتشاف تفاصيل زيّه. أو لابتياع «حبة علكة»، حتّى لو تجاوز ثمنها قيمتها الأساسيّة، أو ربما لسماع آرائه في السياسة والسياسيين.
لم يكن محمد يبتغي ممارسة هذا العمل، رغم قناعته بأنّ «الشغل شو ما كان مش عيب، والمهم الواحد يعيش بكرامتو»، وصحيح أنّه أُميّ لا يتقن القراءة والكتابة، «لكنّني أسمع جيّداً وأعرف كيف ومتى وماذا أتكلّم».
منبريّ بامتياز هو، حين يخاطب الطلّاب، وكأنّه يعظ من على جبل: «في هذا الوطن، يولد الإنسان من بطن أمّه محمَّلاً بكمّ هائل من الديون. ورغم ذلك، لا يعترف بفقره. بل، يذلّ أخاه المواطن المعتّر ويتهرّب منه كأنه «كوليرا»، متناسياً أنه هو فقير أيضاً». لذا، لا يستغرب أبو العبد تعاطي الآخرين معه على هذا النحو. لكونهم «رضعوا البرجوازيّة حتى العظام والتكبّر يتملّك نفوسهم، ويتغلغل في دمائهم». أمّا أمنية محمّد فهي «أن نعي يوماً ما أنّنا جميعاً زملاء في الفقر، في بلد مستدين من العالم بأسره»، معتبراً أنّ «فقر الوطن هو فقر لجميع مواطنيه، ولا يدرك تلك الحقيقة سوى أغنياء النفوس وحدهم».
كان «أبو العبد» يملك سيّارة «مرسيدس»، يعتاش من خلالها، كسائق أُجرة، ويستعين بها، في الوقت عينه، لبيع القهوة والشاي على شاطئ البحر. لكنّ السلطة الحاكمة عام 2000 صادرت السيارة بسبب «العلم اللبناني الذي كنت أرفعه بفخر على السيارة» كما يقول. ومنذ ذلك الحين لم يعد محمد يملك أيّ مصدر للرزق. ويضيف: «حاولت العمل لدى «سوكلين» لكن اجتياح اليد العاملة الأجنبية لها حال دون ذلك». آسفاً «لا خبز لفقراء هذا البلد بين النفايات حتى لو كانت وطنيّة».
لا ينسى «أبو العبد 1701» انتقاد الوضع الطائفي القائم، ناعتاً إيّاه بـ«التلوّث الاجتماعي». يحاول أن يجد له مبررات، فلا يفلح، ولا يقتنع بـ«لا منطق» الطائفيين «نحن نأكل من صحن واحد. جوعك هو جوعي، وعلمك علمي، فرحك فرحي، حزنك حزني، دمك دمّي». ويعتقد «أبو العبد» أنّ اللبناني الأصيل «لا يسعى إلى خراب بلده». ويدعو الطلّاب إلى مراقبة زعماء الطوائف في لبنان «ماذا يفعلون وإلى أين يأخذوننا!»، مؤكِّداً لأصدقائه أنّهم «لعبة طيّعة في أيادي دول تريد القضاء على البلد». ويتساءل «أما آن الأوان لنجمع على مصلحة الوطن الواحد، لا على مصالح الطوائف المتعدّدة، التي تنحر لبنان عبر الارتهان للأجنبي وأزلامه في السفارات». ويضرب مثلاً «نحن السمك والدولة مياهنا»، متمنياً «فيا ليت تلك المياه تعود إلى الوطن، فنكفّ عن المنافقة».
ولدى ذكر اسم «سعد الحريري» أمامه، يصرخ متوجّهاً إلى حكّام السلطة «اختبروا فقرنا يوماً واحداً فقط، ومن ثمّ أخبرونا عن حالكم،حينذاك». وفجأة، يعرض «أبو العبد» على الطلّاب ورقة نقدية من فئة الألف ليرة الزرقاء، يتوسّطها رسم لوجه «الجنرال» -لتتضح ميوله السياسية- ويستطرد «أعوّل على انتصار المعارضة، إيماناً منّي بأنها وحدها الكفيلة بانتشالي من بؤسي».
ويختم زيارته الدورية إلى كافيتريا «الآداب» ناصحاً «من زمان كان عالحكي جمرك، بس اليوم عليه درك ومخابرات. فكبّروا عقلكن وما تصدقوني، لبنان حلم ضاع مع حكاية إبريق الزيت!».
وبعدما يغادر «بائع العلكة الوطنيّ»، لا تتوقف أحاديث الطلاب حوله. فيقول الطالب أنترانيك طانشيان: «أبو العبد» تخطّى كلّ القرارات الدوليّة برقم سجلّه «الصدفة» «1701». صادقنا بحقيقته، فعرّى غرابتنا وغربتنا. وعلّمنا ما عجزت الكتب والحصص الأكاديمية المملّة عن نقله إلينا».