إبراهيم الأمين
ليس في لبنان من يعرف وليد جنبلاط أكثر من نبيه برّي. لم يتوقّف الأخير عن متابعة صديقه وحليفه وخصمه، وهو لم يتركه يغيب عن نظره لحظة واحدة. وعندما اختلفا، لم يبالغ برّي يوماً في وصف زعيم الغالبية الدرزية، في إنصافه أو في نقده لسلوكه. وظلّ برّي على الدوام يتمتّع بمماحكته. لم يكن يهرب من مواجهته يوماً. قاتله وتضارب معه وتصارحا رصاصاً وصراخاً. لكن لم يفُته يوماً أن ينصفه على طريقته. حتّى وقت طويل، كان نبيه برّي يرى في ما ذهب إليه جنبلاط الآن ثمرة لتجمّع من الأخطاء، بينها ما هو في تركيبة ابن الجبل المدلّل، وبينها ما هو في تركيبة هذا البلد الفضيحة، وبينها ما هو في سياسة الأوصياء على اختلافهم، بمن فيهم سوريا التي لم يُعفها بري من مسؤولية إبعاد الرجل دون تحميلها مسؤولية سفره البعيد والطويل. حتى عندما شرع بري في اختراعاته، من الحوار والتشاور والنيات الى آخر الخلطة، كان يراهن من حوله على قدرته على جذب البري الآخر إلى حيث يجب أن يكون.
لكن مشكلة نبيه بري اليوم ليست النقص في آليات فهم جنبلاط أو التعامل معه، بل في غياب المعاون على كبح جماح الأخير. تركيبة الأسد الابن انتهت، ومعها راح الترياق. ثم جاءت مصيبة اغتيال الرئيس رفيق الحريري لتفقد بري حليفاً في أمور كثيرة، من بينها صانع الأقفاص الذهبية لطاووس المختارة. ومع مرور الوقت، تعب بري من ملاطفة قارئ كليلة ودمنة. وصار لزاماً عليه البحث في أدوات أخرى. لكن بري لم يفكّر يوماً في أنّ الرجل يسعى إلى منازلته، كما حاول أن يفعل أول من أمس.
أمّا البيك فلا يعرف المبادلة في هذه الحالة. غادر عقله البدوي نحو انتماء يخالف كل ما فيه من إرث والده. عاد ليجد نفسه أقرب الى تركيبة تعيد إليه مجداً ضائعاً في جبل لبنانه الضيق. بات يقيس الأمور من زاوية أنّ خصمه على حكم الإمارة في حالة ضعف شديد، ولم يرتح يوماً إلى أيّ فريق مسيحي قوي. كان ولا يزال أقرب الى صديقه ورفيق دربه اللبناني الطويل عبد الحليم خدام وثابتته الشهيرة: «إضعاف القوّة السياسية للخصم المسيحي في لبنان». وهو الذي عمل معه ومع غازي كنعان، وكان الهدف على الدوام جعل الفريق المسيحي جزءاً من آلية العمل في وجه الآخرين في الداخل أو في الخارج. هكذا ترك الكنيسة ورأسها في حال احتجاج يُستفاد منه ساعة يشاء، في موازاة مقايضة مع البقية من المتدرجين في العمل السياسي في مدرسة ما بعد توقف الحرب. فقاعدة العمل تقول بالمقايضة: نعطي المسيحيين مكانة في دائرة السلطة، ونأخذ منهم الولاء المطلوب. نجح الأمر خلال فترة الطائف مع أقلية كانت جزءاً من التركيبة التي أرسى دعائمها حلفاء جنبلاط في النظام السوري، من خدام وآخرين غيره كانوا على الدوام خصوماً لفريق قاده أولاد حافظ الأسد في لبنان.
لم يكن جنبلاط يُقر يوماً بنفوذ خاص لكل قادة المسيحيين. لم يُعجَب يوماً بأي شخصية تتمتع باستقلالية حقيقية. حتى حليفه الجديد سمير جعجع، هو بالنسبة إليه مجرد أداة قابلة للاستخدام، شرط أن يبقى الأخير أسير المعادلة ــــــ المقايضة: نمنحك الحرية والشرعية، نفتح لك الأبواب أمام احتمال تحولك شخصية أولى في لبنان، شرط الانتماء كاملاً الى دائرتنا السياسية.
لم يكن رفض جنبلاط للعماد ميشال عون، وقبله للعماد إميل لحود، رفضاً لفريق العسكر. فلطالما كان جنبلاط حليفاً للجنرالات: ماذا كان يفعل مع ياسر عرفات وقادة مصر والجزائر وسوريا واليمن ومنظومة الاتحاد السوفياتي السابق؟ لكنه كان على الدوام ضد من يقدر على امتلاك موقع متقدم من خارج الآلية التقليدية. وعندما كان برّي شريكاً كاملاً في حصر إرث الجمهورية الأولى، كان جنبلاط يرى فيه حليفاً متقدماً على كل الآخرين. كان مستعداً للاختلاف مع رفيق الحريري ومع كل من تعاقب من رؤساء وقادة، ومع سوريا نفسها، لكنه لم يغامر يوماً في «مخانقة» بري. لكن ثمة ما استجد منذ ما بعد اغتيال الحريري. شعر جنبلاط بأنّ الأمر تجاوز القواعد السابقة. وصار يرى نفسه أمام فرصة قيادة السنّية السياسية التي حرمه إيّاها الحريري الأب.
لكن ما فكر فيه جنبلاط أخيراً فاق قدرته على المناورة. ظن محقاً أن إمساكه بقرار تيار «المستقبل» يتيح له الإمساك الفعلي بقرار فريق 14 آذار، إلا إذا دلنا كارلوس إده والياس عطا الله وميشال نايلة معوض على ما هو غير ذلك. لكن ظنه أخطأ في إمكان نقل المعركة الى ملعب الآخرين. وفي زيارتيه الأخيرتين الى الولايات المتحدة وفرنسا، تعلّم تكتيكات إضافية. حاول أول من أمس تطبيق دروسه الجديدة. حاكى مناورات الآخرين في الاستيلاء على مؤسسات الدولة. أكثر من الكلام على المجلس النيابي المخطوف والمصادر. ثم أوهم نفسه بأنه يقود فرقة كومندوس لتحرير المجلس الرهينة من خاطفيه. سوف يبدو بطلاً في استعادة مواقع السيادة والدستور وسيظهر بمظهر محرر الديموقراطية مثل مَثَله الجديد جورج بوش الذي استبدل به هوشي منه.
لكن لغة جنبلاط تفضحه. كلما قرأ في كتاب كليلة ودمنة ظهر مرتاحاً في القول، وحتى في الابتسام والانتعاش بفرحة الجمهور بجنونه. وعندما يحاول الإشارة الى الدولة أو الدستور، يتلعثم ويبدو غريباً كمثل تاريخه البعيد عن فكرة المواطنة. وتراه ينهي كلامه سريعاً ويخرج من دائرة الضوء. يركض الى حيث يكون وحده قادراً على الانفجار في الضحك على كل شيء. على نفسه أولاً، وعلى من أُعجب بكلامه. لكنه بدا أول من أمس مثل قائد كشفي يقف من حوله صبية يتنافسون على من يحتل الكادر الى جانب الزعيم المفدّى. يرفعون رؤوسهم حتى لا ينقص المشهد السينمائي الرديء صور ياقاتهم المرتبة على عجل مثل حال أصحابها.
لم يكن جنبلاط يتوقع حركة بري. كان قد اكتفى بدروس دونالد رامسفيلد العسكرية. ربّما بهرته بهلوانيات جاك شيراك الذي لا يعرف النوم لمجرد أن يتخيل المشهد الآتي سريعاً: يغادر هو قصر الإليزيه في طريقه الى مكتب المحققين في قضايا فساده، بينما يتحادث إميل لحود وبشار الأسد على هاتف ساخن يوصل بين قصري الرئاسة في بيروت ودمشق... معه حق، أعانه الله على هذه المحنة وأعان شعبه على ما بقي له في الحكم، وأعان اللبنانيين على صبية له ينتشرون كالإزعاج في كل أرجاء لبنان، ولا شفاء منهم سوى بالحذر أو الدعاء!