إبراهيم الأمين
لم يكن فؤاد السنيورة أكثر المطواعين بيد الرئيس الشهيد رفيق الحريري. في عام 1992، يوم أعدّ الحريري بيانه الوزاري الأوّل، كان السنيورة يعدّ اقتراحاً يدعو إلى عدم وعد الناس بالربيع الآتي، بل بأنّ الأيام المقبلة يجب أن تكون أيام عمل ونشاط لإعادة بناء ما خلّفته الحرب، وأن الأمر يتطلب شد الأحزمة. لم يأخذ الحريري بنظرية صديقه، وأخذ برأي الذين قالوا له إن الجمهور ينتظر منك زهوراً لا دموعاً، وبالتالي ليس عليك سوى الأخذ بالمؤشرات من حولنا التي تقول بقرب توقيع السلام بين العرب وإسرائيل، وإن الفورة ستدرّ على لبنان ما يناسبه لإطلاق دورة اقتصادية. لكن الجهوزية تتطلب بنية تحتية يجب إنجازها فوراً حتى يكون البلد جاهزاً لملاقاة الخير.
أمر آخر كان السنيورة لا يعجبه، لكنه كان يأخذ به مرغماً، وهو آلية الحريري لإقامة صفقة تعايش بين أمراء الحرب وأمراء المال. لم يكن مرتاحاً لا لطريقة توزيع الحقائب الوزارية ولا لتفريخ الصناديق، وكانت لديه مشكلة أصلاً مع مجلس الإنماء والإعمار. حتى السياسة النقدية التي أدارها حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، لم تكن تناسب طموحات من وصفه معارضوه على الدوام بـ“المحاسب” الذي يريد إدارة القطاع العام. كان السنيورة، وربما لا يزال، يكره المتعهدين وأصحاب المستشفيات والمقاولين وبناة الجسور والمنشآت وأصحاب الرساميل المجمّدة في حسابات المصارف وكبار الصناعيين الذين يريدون الإعفاءات الضريبية. كما ظل على الدوام يكره الموظفين الذين يتقاضون رواتب في مقابل عمل غير موجود.
لم يكن رئيس الحكومة معجباً بكل من يلبس الثياب المرقطة. كان يرى في القوى الأمنية والعسكرية عبئاً على كل شيء. ولم يكن موافقاً على الإدارة السياسية السورية التي تجعل الجيش خارج إطار نفوذه المالي. ولما حاول، ذات مرة، التدخّل في عائدات الضباط، تعرّض للكمين الشهير على يد إميل لحود وجميل السيّد. وهو كان يرى في عناصر قوى الأمن مرتشين وفاسدين وعاطلين من العمل، أكثر ممّا يرى فيهم عناصر تحقّق الأمن وتنظم أمور الناس ومعاملاتهم. وهو كان يرى على الدوام أن الموازنات المصروفة على المؤسسات العسكرية والأمنية مصدر العلّة على الدين العام والتضخم، وأنه بسبب هذا الواقع تتعطل عملية الإصلاح الإداري.
كان السنيورة قليل الاحترام للمؤسسات التربوية الرسمية. لم يؤمن يوماً بأن أساتذة الجامعة اللبنانية أو القطاع التعليمي الثانوي أو المتوسط أو الابتدائي لهم الحق في ما يطلبون، فيما هم لا يخرّجون إلا جهلة أنصاف متعلمين. وهو كان يوقع حزيناً أي قرار بزيادة رواتب هؤلاء أو تحسين شروطهم. وهو كان أيضاً لا يحترم ما يسمّى النقابات العمالية، وكان يرى في الاتحاد العمالي مجرد أداة بيد الأجهزة الأمنية أو القوى السياسية، وأنه تعبير عن “النق الذي يصدر عمن لا يريد أن يقوم بعمله صحيحاً”، وكان يقاوم أي فكرة لزيادة الأجور أو التقديمات الاجتماعية.
أما المواطن العادي فكان السنيورة يراه على الدوام مقصّراً في واجباته تجاه الدولة، وكان سعيداً عندما يتحدث عن المواطن كـ“زبون” برغم أنه كان يمقت فيه تهربه الدائم من التزام الموجبات المتوالدة ازاء الدولة من أنواع مختلفة من الضرائب.
قتل الرئيس الحريري، وتولى السنيورة موقعاً متقدماً في التيار السياسي الذي ورث زعيم غالبية السنة في لبنان. ولأسباب متنوعة، داخلية وخارجية، صار السنيورة رئيساً للحكومة، وأتيح له، للمرة الاولى منذ توليه مهمة عامة، الدور القيادي المتقدم. وقال هو إنها الحكومة الاستقلالية الاولى التي تؤلّف من دون ضغط الأوصياء من الخارج. وهو كان يتحدث عن فرصة التخلي عن كل موجبات المرحلة الماضية. لكنه سار على درب غيره. ألّف حكومة تحت وطأة الأزمة السياسية، وسلم الحقائب الى من يعرف، ومن قال سابقاً ومراراً، إنهم لا يصلحون لإدارة منازلهم. ولم يقدم على تغيير واحد في السياسة النقدية، وظل يدعم تكديس الاستثمارات المالية في المصارف لتغذية القطاع العام. وبدل أن يقود مراجعة جدية، صار مولعاً بالأجهزة الأمنية والقوى العسكرية، ووافق من دون تردد على زيادة غير متوقعة في العديد والإنفاق، وأضاف الآلاف الى القطاع العام من الذين دخلوا بطريقة المحسوبية نفسها، ولم يطرأ أي تحسن على أداء الموظف العام لا لناحية ساعات العمل ولا لزيادة الإنتاج، وباله ليل نهار في كيفية زيادة الضرائب وخصوصاً من النوع الذي يصيب المستهلك مباشرة، وليس بيده تصور لمشاكل الطاقة على أنواعها والاتصالات إلا بيعها الى القطاع الخاص من دون تردد. ولم يفتح باب المنافسة لأنه يريد الاحتفاظ بهامش الرسوم على ما تنتجه هذه القطاعات. ولم يعمد الى وقف الهدر على التعليم المجاني أو على الموظفين الذين يتكدسون في الإدارات العامة من دون متابعة، ولم يدلنا على باب الهدر أو الفوضى في السرايا الكبيرة وحدها، وهو لم يجد طريقاً لتحسين سلوك وإنتاج وزارات حساسة في الأشغال العامة والصحة والاتصالات والمال والتربية وغيرها، وظل ينظر بقلّة اكتراث الى حاجات الناس في أمورهم اليومية. وبدل أن يدقق في فواتير المتعهدين والمقاولين وأصحاب المستشفيات، ويتابع التزام القطاع المصرفي بالإنماء العام كما شركات التأمين والمؤسسات الكبرى، تراه يوقّع من دون تردد على أي إنفاق يخص أجهزة أمنية لا نعرف ماذا تفعل غير التنصت مجدداً على الناس، بينما يؤخر، من دون سبب، صرف الأموال المخصصة من مساعدات دولية لإعادة الناس الى بيوت تحتاج الى من يعمّرها.
وأكثر من ذلك، فإن السنيورة مشغول بتربية خصوم 14 آذار من السياسيين. وعندما احتاج الفريق الحاكم الى واجهة في مواجهة الآخرين، تدفقت الحشود إليه في السرايا. كان يرفع يديه إلى الأعلى مقلّداً مَن في باله منذ الصغر. لم يكن يقدر على ضبط أوتاره الصوتية، فجأة فقد حسه النقدي إزاء انفعالات الجمهور، وصار يرفع من نبرته بما يستدر تصفيقاً أكبر، وهو لم يرسل بذلته التي ربّت عليها جورج بوش بعد الى التنظيف، وصدق أن هناك تدفقاً للحجاج إليه من قادة العالم، وأن مصير بلدان وقوى وأنظمة وشعوب بات رهن قراره... حتى إذا ما دقت ساعة العمل، أعيد من حيث لا يدري إلى حجمه الطبيعي: منفذ لسياسات تفوق حجمه وتكبر عن قامته وتدفعه الى حيث يكون واحداً من كثر ليس عندهم هامش المناورة المفترض. فجأة انقطع الزوار من الخارج، وتوقف تدفق الحشود الشعبية، وبدت السرايا معزولة إلا من قاطنيها، وصار يتوتر لسماع أصوات ضيوفه من الوزراء يصرخون بوجه نسائهم. وصار أكثر توتراً وهو يشاهد الأخبار تتحدث عن حوارات يعرف عناوينها ولا دخل له لا بالتفاصيل ولا بالقرار بشأنها، ولم يترك قريباً أو بعيداً إلا قدم شكواه إليه من إهمال الأقربين والأبعدين، ودرس آثار حروبه المفتوحة قبل وقت قصير ضد كل من قرر وليد جنبلاط وسمير جعجع أنه خصم للحرية في لبنان، فلم يعد رئيس الحكومة يجرؤ على تفقد أكثر من ثلثي الأراضي اللبنانية ولا على التحدث مع نصف اعضاء المجلس النيابي ومع أكثر من نصف موظفي الادارة العامة، وبات أسير برامج قليلة تدفعه الى الاستعراض الاخير، وهو ما ينوي القيام به قريباً جداً... في الرياض!