رشا أبو زكي
يشكّل تعدّد الصناديق الضامنة في لبنان أحد أهم أسباب ارتفاع الفاتورة الصحية، إذ تعاني بعض هذه الصناديق الفوضى المطلقة في كل المجالات، حتى في احتساب عدد المستفيدين من تقديماتها. لكنّ المؤشّر الغريب هو أن 28,8 في المئة من المشمولين بالتغطية الصحية هم من محدودي الدخل، فيما ترتفع هذه النسبة إلى 75,1 في المئة للأفراد الذين يتجاوز دخلهم الشهري خمسة ملايين ليرة. فإلى من تتوجّه هذه الصناديق؟

يذكر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في المادتين 22 و 25 أن «لكل شخص الحق في الضمان الاجتماعي». ويشير الإعلان نفسه إلى أن الحق يشمل «الرعاية الطبية والخدمات الاجتماعية الضرورية والحق في ما يأمن به من الغوائل في حالات المرض أو العجز أو الترمل أو الشيخوخة». أما في لبنان، فالواقع مختلف، إذ لا يقارب موضوع الضمان الاجتماعي من خارج السياسة العامة المتبعة، التي توظف كل إمكاناتها لزيادة ثروات الأغنياء على حساب أصحاب الدخل المحدود. ويظهر ذلك من خلال غياب خطة واضحة عن أهداف الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي والفئات التي يجب استهدافها. لا يقتصر هذا الواقع على الضمان، بل يمتد إلى وزارة الصحة وتعاونية موظفي الدولة وتعاونية قوى الأمن وصناديق التعاضد. كما يستمر الهدر في الإنفاق على القطاع الصحي رغم تأكيد الخبراء المختصين أن ما ينفق على الصحة من خلال هذه المرجعيات، يؤمّن الطبابة المثلى بكل عناصرها للبنانيين كافة.
لن يتناول هذا التقرير مشكلة العجز المتراكم في بعض الصناديق الضامنة، بقدر ما يسعى لإظهار مكامن الخلل في تشعب هذه الصناديق وعلاقتها بالجسم الطبي والاستشفائي، وخصوصاً في صندوق الضمان.

اختلاف في التمويل والتغطية

يتمّ تمويل الإنفاق العام على الصحة من الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، وتعاونية موظفي الدولة، وقوى الأمن (عناصر قوى الأمن النظامية) ووزارة الصحة، ووزارة الشؤون الاجتماعية. ويتوجّه كلّ من هذه البرامج إلى شريحة مختلفة من المجتمع، من حيث خصائصها الديموغرافية والاجتماعية. كما يتفاوت حجم الموارد المالية ومصادرها بحسب الصناديق الضامنة المختلفة، ما يؤدّي إلى تفاوت في مستوى التقديمات الصحية للمستفيدين من هذه الصناديق. إذ يظهر المسح الوطني للإنفاق الأسري في لبنان أنه كلّما ارتفع دخل الأسر، ارتفعت نسبة الأسر المضمونة. ففي حين يشمل التأمين 28.8 في المئة من الأسر التي يتراوح دخلها الشهري بين 300 ألف و 500 ألف ليرة، ترتفع هذه النسبة إلى 75,1 في المئة للأفراد الذين يتجاوز دخل أسرهم الشهري خمسة ملايين ليرة لبنانية.
وتتضمّن تغطية الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي تعويضات المرض والأمومة بواقع 90 في المئة من كلفة الاستشفاء، وبنسبة 80 في المئة من كلفة الطبابة العادية، باستثناء طبابة الأسنان. أما تعاونية موظفي الدولة فتغطي 90 في المئة من نفقات الاستشفاء، و75 في المئة من نفقات الطبابة العادية والأدوية وطبابة الأسنان، و75 في المئة من كلفة الاستشفاء لأفراد أسرة الموظف، و50 في المئة من كلفة الطبابة العادية وفاتورة الدواء. أمّا صناديق القوى الأمنية فتغطّي كامل نفقات الاستشفاء والطبابة للمنتسبين، و75 في المئة من النفقات الصحية للزوجة والأولاد، و50 في المئة للأبوين اللذين يعيلهما المنتسب، فضلاً عن تغطية نفقات العلاج في الخارج.
أما من ناحية التمويل، فهناك ثلاثة مصادر لتمويل صندوق الضمان: الدولة، اشتراكات أرباب العمل، واشتراكات المستخدمين المسجلين. ويبلغ المعدّل المعتمد لتقدير عدد المستفيدين نسبة إلى المنتسبين إلى الصندوق 3 مستفيد/ منتسب. أمّا تعاونية موظفي الدولة فتموَّل من اقتطاعات رواتب الموظّفين (نحو 3 في المئة من الراتب)، وتتكفّل الحكومة بتمويل الباقي، وتعتمد التعاونية المعدّل 6 لتقدير عدد المستفيدين. وفي ما يتعلّق بمصادر تمويل صناديق القوى الأمنية، يسهم المضمونون شهرياً بمبلغ ألف ليرة لبنانية رسم انتساب، وتتكفّل الحكومة بتغطية الرصيد الباقي. وتختلف التعريفات بين صندوق وآخر.

تضارب في عدد المستفيدين من الصناديق

يشدد المدير العام للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي محمد كركي على أن الضمان يغطي نحو 30 في المئة من الشعب اللبناني. ويرى أن الأرقام الأخرى بعيدة عن الواقع، لافتاً إلى أن عدد المضمونين 485 الفاً و827 مضموناً. أمّا المشكلة فتكمن في عدد المستفيدين الذين لم يتمكّن الصندوق من إدخال المعلومات المتعلّقة بهم إلى أجهزة الكومبيوتر. لكنّ المؤكد أنّ العدد الإجمالي لا يقل عن مليون و200 ألف بين مستفيد ومضمون. ووفقاً لتقرير لجنة الصحة والعمل والشوؤن الاجتماعية النيابية في 2001، يغطي صندوق الضمان 60 في المئة من العدد الإجمالي للسكان باستثناء المستفيدين من تقديمات وزارة الصحة (18 في المئة).
إلا أن البرنامج التنموي 2006ــــــ 2009 يشير إلى أن عدد المستفيدين من الضمان الاجتماعي لا يتعدّى 700 ألف، وأن الضمان يغطي 17,8 في المئة من عدد المنسبين إلى المؤسسات العامة الضامنة. كما يلفت إلى أن تضخيم الأرقام الصادرة عن الصندوق ناجم عن عملية حسابية ترتكز على عملية ضرب عدد المنتسبين إلى الصندوق (نحو500.000 منتسب) بعامل قدره 3 (المعدّل المعتمد لعدد المستفيدين نسبة إلى المنتسب الواحد). ويضاف إلى ذلك وجود تفاوت كبير في نسب التغطية بين منطقة وأخرى، وهو تفاوت مرتبط بالثقل النسبي لحجم أصحاب الأجر من القوى الإجمالية العاملة في كل المناطق. فهذه النسبة هي الأعلى في بيروت وجبل لبنان ( 23.8 في المئة و23.9 في المئة على التوالي )، والأدنى في النبطية (10,2 في المئة). ويعود ذلك إلى استقطاب المدن لأكبر نسبة من الشركات والمؤسسات، وبالتالي الأجراء. ويشير «المسح الوطني للإنفاق الأسري على الصحة واستخداماته» إلى أن الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي يغطي 17.8 في المئة فقط من الأسر، بينها 3.2 في المئة تفيد من تأمين إضافي أو مختلط.
ومن ناحية أخرى، يلفت البرنامج التنموي إلى أن تعاونية موظفي الدولة تغطي 4,5 في المئة من اللبنانيين، وصناديق القوى الأمنية 8,1 في المئة، والتأمين الخاص 8،3 في المئة، ومؤسسات أخرى 7,2 في المئة. أمّا تقرير لجنة الصحة والعمل والشوؤن الاجتماعية النيابية فيرى أنّ الطبابة العسكرية تغطي 15 في المئة، وتعاونية موظفي الدولة 17,5 في المئة، والقوى الأمنية 6,6 في المئة، وصناديق التعاضد 0,9 في المئة.
أما الدكتور بول سالم فيقول في تقرير أعدّه عن «الفقر في لبنان» إن جميع الصناديق الضامنة لا تغطي إلا نحو 50 في المئة من السكان. ونظراً إلى الفساد وعدم الكفاية التي يعانيها عدد من هذه الهيئات، فإن كثيراً من المواطنين في لبنان لا يزالون في صراع مرير ومحفوف بالمخاطر الشديدة ضد الفقر المدقع والصحة السيئة.

تجارب «فاشلة» وفواتير

يقول وزير الصحة العامة المستقيل محمد جواد خليفة، إن «بعض المؤسسات العامة الضامنة فشلت في تأدية مهامها، إذ إن صندوق الضمان كان يغطي 25 المئة من اللبنانيين منذ 10 سنوات، ولم تتطور هذه النسبة إلى الآن. كما شهد الضمان تجارب فاشلة مثل الضمان الاختياري الذي أفلس. ولم تقترح الحكومة خطوات جدية لسياسة صحية شاملة، وتبرز في هذا المجال تعدد الجهات الضامنة، إذ إن كل مؤسسة أنشأت صندوقاً ضامناً على حسابها».
أمّا كركي فيرى أن عدد المضمونين «لم يتطور، بسبب المشكلات المتعلقة في عملية التمويل وتحديد الاشتراكات». ويشدد على أن «مستوى الاشتراكات لا يؤمن التوازن المالي، وقد طرحنا هذا الموضوع، لكن لم يترجم ذلك بإقرار مرسوم لزيادة الاشتراكات».
ويلفت وزير الصحة السابق كرم كرم إلى أنّ «المشكلة الأساسية في الضمان هي عدم شمول المكننة المستفيدين من تقديماته، ما يودي إلى ازدواجية في الفاتورة الصحية. كما أن القطاع الصحي في لبنان غير منضبط، وهناك أكثر من فريق في لبنان يتولى الشأن الصحي وهناك فئة كبيرة من اللبنانيين ليس لديها تغطية صحية. أما الجهات الضامنة فمختلفة من حيث العدد والفئات والأهداف، وضعيفة من حيث الرقابة».
ويرى كركي أن «الرقابة كانت ضعيفة في الضمان حين كان يوجد 32 طبيباً يغطون 143 مستشفى، لكن في 2006 ارتفع العدد إلى 64 طبيباً، انخفض معهم عدد الموافقات على الاستشفاء 20 الف حالة عن عام 2005». ويلفت إلى أنه «يوجد إمكانية لتضخيم المستشفيات فواتيرها، لكن يتم ضبط هذه المخالفات. كما يستطيع المستشفى إجراء فحوصات غير ضرورية، أو زيادة فحوصات وهمية على الفاتورة. وأحيانا يشطب الصندوق بين 15 إلى 20 في المئة من الفواتير بعد الرقابة».
ويشير كركي إلى أن مراقبي الضمان لا يعملون يومي السبت والأحد خلال فصل الصيف، أما في الشتاء فلا يعملون يوم الأحد. وعن تأثير ذلك على مستوى الرقابة خلال هذه الأيام، يقول كركي إنّ هناك تدقيقاً من المراقب الإداري، وقد قمنا بإعداد آلية للمناوبة في المستشفيات لتغطية هذه الثغرة. ويلفت إلى أن مديرية التفتيش المالي حررت 320 تقرير مخالفة السنة الماضية طالت جميع القطاعات الصحية.
أمّا في موضوع فاتورة الدواء والمعاينات الطبية، فيقول كركي إنه يوجد إمكان للتلاعب، لكن الضمان يقوم بجهد لوقف كل المخالفات. لكن لماذا لا تطال الرقابة المختبرات الصحية؟ يقول كركي إن الإدارة تبحث في توسيع الرقابة إلى المختبرات.

تعاونية الموظفين وصناديق الأمن

أمّا بالنسبة إلى تغطية تعاونية موظفي الدولة، فإنّها، بخلاف الضمان، تتركّز في المحافظات بشكل أكبر منه في العاصمة بيروت. ويقول مدير عام تعاونية موظفي الدولة، أنور ضو، إن التعاونية تغطي 71 ألف منتسب و250 ألف مستفيد، ويشير إلى أن موازنة التعاونية 170 مليار ليرة، 24 في المئة من الموازنة تغطيها اشتراكات الموظفين، وما يتبقى تغطيه الدولة. ويلفت إلى أن العجز الموجود في صندوق التعاونية يعود إلى عدم دفع الدولة اعتمادات التعاونية دورياً، لكن لا يوجد تراكم في العجز. ويشير إلى عدم وجود إنفاق غير مجدٍ في التعاونية، إذ إن «الفاتورة الاستشفائية والطبية تخضع للتدقيق وإعادة التدقيق، ونحسم كل ما يفيض عن الفاتورة الحقيقية. كما أن الرقابة الطبية متشددة جداً».
ووفقاً لتقديرات «نظام الرعاية الصحية في لبنان» لعام 1998، بلغ عدد المستفيدين من تأمينات صناديق القوى الأمنية 533.340، فيما بلغ عدد المنتسبين 113.363. إلاّ أنّ دراسة «حجم القطاع العام» قدّرت عدد المستفيدين بـنحو 394 ألفاً.



إذلال

في ظل تعاقد الضمان مع 114 مستشفى، لا يزال المضمون يتعرض للإذلال على أبواب بعض المستشفيات. وفيما يشدد رئيس نقابة أصحاب المستشفيات سليمان هارون على أن هذه الظاهرة قد انحصرت كثيراً، يقول المدير العام للضمان محمد كركي إن المشكلة الأساسية التي يعانيها الضمان ليست رفض المضمونين، بل كثرة قبولهم من بعض المستشفيات في حالات لا تستلزم معاينة استشفائية، ولأسباب غير مبررة. ويوضح أن ثلاثة مستشفيات فقط في لبنان لديها سعة محددة لاستقبال المرضى، وهي مستشفى الجامعة الأميركية، ومستشفى الروم، وأوتيل ديو.



الضمان ينفق 12.3 % من تقديماته على موظّفيه

أعدت اللجنة الوزارية المكلفة معالجة ملف صندوق الضمان في 2001/12/7 ورقة وصفت وضع الصندوق بأنه «متردٍّ» وأن الكلفة الإدارية تشكل «12.3 في المئة من التقديمات، وهي واحدة من الأعلى في العالم، إذ تصل إلى 95 مليار ليرة على 1450 موظفاً، يعملون بمعدل لا يتعدى 30 ساعة أسبوعياً، ويقدمون خدمات سيئة، وبأجر وسطي سنوي قدره 61 مليون ليرة للموظف الواحد. وقدّرت الورقة عدد الموظفين غير المنتجين بنحو 25 إلى 30 في المئة». لكن مدير عام الصندوق محمد كركي يقول إن العدد الحالي للمستخدمين في الضمان 1470، لافتاً إلى أن متوسط رواتب الموظفين مليون و200 ألف ليرة. ويشير إلى أنّ ارتفاع أجر الموظفين يعود إلى سلسلة الرتب والرواتب المعتمدة في الصندوق، إذ يرتفع حجم الراتب الأساسي، ويضاف إليه زيادة 5 في المئة سنوياً، في حين أن موظفي الضمان يعملون منذ فترة طويلة، ومعظمهم وصل إلى مرحلة التقاعد. ويوضح أن مجلس الإدارة يدرس اقتراحاً يتعلق بسلسلة جديدة للرتب والرواتب.