جوزف سماحة
العبارة الأثيرة عند عدد كبير من السياسيين اللبنانيين هي: تطبيق اتفاق الطائف. تتردّد كثيراً كأن هناك من يريد الإيحاء بأن الأزمة الراهنة نافلة لأننا نملك الوصفة الجاهزة للحل ويكفي اللجوء إليها. والعبارة نفسها تستخدَم أحياناً كأنها «تعويذة» تطرد الأفكار الشيطانية، أو التفاصيل الشيطانية، التي قد تراود البعض بمن فيهم من يمكنه الاعتقاد بأن الاتفاق المذكور لم يعد يقدّم الأواليات اللازمة للردّ على المشاكل المثارة هذه الأيام، مفترضاً أن الأزمة الحالية فاضت عن «الطائف» نصّاً وممارسةً.
نعيش في فوضى دستورية عارمة. هذا أقلّ ما يقال. لكل طرف تفسيرُه للصلاحيات. مراكز القرار تتعدّد و«تنجح» في تعطيل بعضها بعضاً. التباين في تحديد موقع لبنان الإقليمي يصل إلى ذروة. هذه العناوين، وغيرها الكثير، تذكّر بالثغر في الاتفاق المتحوّل دستوراً.
وعندما يشير مسؤولون أو وسطاء إلى أن الحل اللبناني موجود في الخارج، في تفاهمات خارجية، فإنهم لا يفعلون سوى الإشارة إلى عنصر حاسم جعل «اتفاق الطائف» ممكناً في ذلك الوقت وأدّى افتقاده، اليوم، إلى جعل المعضلة تدوم وتتفاقم.
لم يجرؤ أحد على طرح السؤال المحرّم: هل لا يزال «اتفاق الطائف» حيّاً؟ بمعنى آخر، هل ما زال يستطيع تقديم مخرج؟ لا بد، قبل المغامرة بأي جواب، من التذكير بالمرتكزات الأساسية التي جعلته ممكناً في تلك اللحظة، وحوّلته أساساً لتسوية ـــ هدنة أُريد لها أن تستمر، وسمحت له بأن يعيش ما دام يعبّر عن معطيات واقعية. أبرز هذه المعطيات:
أولاً ـــ التوافق العربي ـــ العربي. المقصود هنا، تحديداً، التوافق السوري ـــ السعودي ـــ المصري. لقد كانت هذه الدول متلاقية على التوجّهات العامّة في التعاطي مع الأوضاع الإقليمية ولو على قاعدة احتفاظ كل عاصمة بخصائصها. أما الترجمة الأبرز لهذا التوافق فكانت المشاركة في حدثين بالغَي الأهمية: الحرب لإخراج القوات العراقية من الكويت ومؤتمر مدريد لتسوية النزاع العربي ـــ الإسرائيلي.
ثانياً ـــ تلاقٍ عربي ـــ دولي (أميركي تحديداً). لقد كانت معالم الانهيار الذي يصيب المعسكر الاشتراكي واضحة ثم تأكدت. انتهت الثنائية القطبية. لم يكن في الأمر ما يزعج السعودية ومصر. أما سوريا فتعاملت بواقعية مع هذا التحوّل وطوّرت جوانب في سياسة سابقة كانت تضعها في موقع التقاطع الإيجابي مع الولايات المتحدة. ومرة أخرى كانت الكويت والتسوية مجالَي ترجمة التلاقي العربي ـــ الدولي بصفته رسماً لسقف السياسة الأميركية الإجمالية في المنطقة و«احتراماً» عربياً له.
ثالثاً ـــ العنوان الأبرز للسياسة الأميركية الإقليمية في تلك الفترة كان الاستقرار. إنها سياسة دشّنها جورج بوش الأب واعتمدها، مع تعديلات، بيل كلينتون. من معالمها الضغط لعقد مؤتمر مدريد بعد حرب الخليج، والاحتواء المزدوج لإيران والعراق. واكبت أوروبا هذا النهج وتكاملت، مع قدر من التنافس، معه.
كان هذا هو الإطار العربي والإقليمي والدولي الذي أحاط بـ«اتفاق الطائف». أما في ما يتعلق بالداخل اللبناني فيمكن، بعد تسجيل انتهاء الوظيفة الإقليمية للاقتتال، تسجيل ملاحظتين:
الأولى هي خروج البيئة المسيحية منهكةً بفعل الاحتراب وفقدان السنَد الإقليمي والنهاية غير السعيدة لعهد أمين الجميل الذي بدأ بتباين مع «القوات اللبنانية» أدى دوراً في خسارة حرب الجبل. لقد بات واضحاً أن لا مجال لأي حل تمثّل هذه البيئة عبره العمود الفقري لإعادة تركيب البلد.
الثانية هي التقارب السياسي بين ممثلي الطوائف الإسلامية الذين سبق لهم التنازع، لكن الذين نجحت دمشق في التأليف بين قلوبهم أو، على الأقل، بين قلوب الأكثر فاعلية بينهم.
إذا كانت هذه هي أبرز المرتكزات التي نهض «اتفاق الطائف» فوقها، فإن هذه المرتكزات لم تعد قائمة. ثمة تنازع عربي ـــ عربي. وثمة خلاف سوري ـــ أميركي (وفرنسي). وثمة سياسة أميركية «تغييرية» ومتعثّرة في الآن نفسه. وثمة استهتار غربي ودولي لا يعارض المقامرة بالاستقرار اللبناني. وفيما نشهد انقساماً مذهبياً بين المسلمين، فإننا نلاحظ عودة، ولو محدودة، للحيوية المسيحية في ظل أرجحية لـ«التيار الوطني».
السؤال مشروع، إذاً، عن فاعلية «اتفاق الطائف» ودستوره لتقديم أجوبة شافية للمرحلة المأزومة التي افتتحها تجدّد التجاذب على لبنان، وتطوّرت مع الخروج العسكري السوري، وتعمّقت بفعل الاغتيالات، وانفجرت تحت ضغط العدوان الإسرائيلي، وباتت متداخلة مع شبكة الملفات الإقليمية المعقّدة (احتلال العراق، انسداد أفق التسوية، النووي الإيراني، محور «الاعتدال العربي»...).
والسؤال مشروع، أيضاً وأساساً، بفعل غياب المرجعية الموحّدة والمعترف بها من قوى لبنانية مركزية. غياب المجلس الدستوري مهمّ، لكن الأهم منه، سياسياً، الافتقار إلى المرجعية السياسية الخارجية التي تولّت تطبيق «اتفاق الطائف» جاعلة من سوء التطبيق طريقة في التطبيق متلائمة مع مصالحها ومصالح حلفائها، وآخذة في الحساب ديناميات طوائفية متباينة داخل لبنان.