جان عزيز
ماذا لو كانت بكركي مع الثوار الناصريين ضد التيار الشمعوني سنة 1958؟ وماذا لو وقفت البطريركية المارونية مع رشيد كرامي، ضد «الثورة المضادة» التي قادها حزب الكتائب بعد انتهاء أحداث تلك الحقبة؟ والأهم، ماذا لو وقف كميل شمعون وبيار الجميل شخصياً، ضد نفسيهما، حيال الواجب الذي أدّياه آنذاك؟... هذا ما كان مقرراً للمسيحيين في لبنان سنة 2006، وهذا ما بدا أن قسماً منه تحقق فعلاً، إن لجهة قراءة الحاضر أو حتى لجهة استعادتهم لأحداث 58، وذلك في إطار انعدام وزنهم، كما يفرض عليهم.
بدأ العام المنصرم فعلياً على المستوى اللبناني، في 27 كانون الثاني الماضي، يوم خرج سعد الدين الحريري من المكتب البيضاوي في البيت الأبيض، وقد اختزل قراءته للبنان والمنطقة والعالم، بالعبارة التي قالها له الرئيس الأميركي جورج بوش: «إن أميركا كلها تبكي والدك». لم يكن التدقيق في مضمون الموقف ضرورياً، ولم يكن القياس واجباً إزاء التجارب الأميركية الماضية. بل كانت المرثية الواشنطنية كافية لانطلاق الحسابات والمشاريع:
ثمة قوتان لا تزالان خارج بيت الطاعة: الشيعة والمسيحيون. في الشيعة قوتان، «حزب الله» و«أمل»، تشكلان العمود الفقري لحالة رفض الإذعان للنظام الجديد. ولدى المسيحيين قوتان ممانعتان أيضاً: بكركي وميشال عون. لكن الفارق كان واضحاً مطلع العام. فعلى المستوى الشيعي لم يكن لدى نظام «السنية السياسية» أي «آرمات» شيعية قابلة للاستخدام كمنصات للتراشق داخل الجماعة نفسها. بينما مسيحياً الأمر ممكن ومتوافر بكثرة نسبية. ثم شيعياً، ثمة محاذير إسلامية وإقليمية لفتح حرب مباشرة بين المذهبين المحمديين، بينما مسيحياً لا محاذير إطلاقاً، وبالتالي فالحرب الجبهية الكاملة هنا ممكنة ومطلوبة، أو حتى مرغوبة.
هكذا بدا منذ مطلع العام أن أمر العمليات قد استكمل للانقضاض على مواقع الممانعة الأربعة، في الجماعتين «الرافضتين»، وإن بتكتيكات متمايزة: شيعيا مغازلة نبيه بري وترك حسن نصر الله للاستحقاق الأميركي الآتي، تماماً كما أسرّ أحد أصوات السلطة إلى مفاوضه العوني قبل الانتخابات النيابية. ومسيحيا استمالة بكركي بكل الوسائل الممكنة، و«قتل» ميشال عون بأي وسيلة متاحة.
ولم تلبث أن ظهرت العقبات. ذلك أن حديثي الخبرة السلطوية اكتشفوا تدريجاً أن رئيس حركة «أمل» والمجلس النيابي ليس إلاّ كميل شمعون الشيعة، بثباته وطول أناته والدهاء. قبل أن يكتشفوا بين 12 تموز و14 آب أن الموعد الأميركي لحسن نصر الله، قد يتأجل طويلاً، وقد يتبدّل مضمونه على وقع التطورات العراقية والإيرانية.
أما مسيحياً فكانت الإنجازات أفضل ثماراً. ذلك أنه منذ مطلع العام تمّ التركيز على استمالة بكركي، وقد خصصت لهذا الهدف ثلاث بطاريات من المدفعية السياسية الثقيلة: الأولى غربية مثلثة بين واشنطن باريس والفاتيكان، والثانية عبر مسيحيي فريق السلطة، والثالثة تمحورت على قضية الورقة السياسية للمجمع الماروني الذي كان انطلق قبل 3 أعوام.
وتؤكد معلومات أن المحور الدبلوماسي، خصوصاً في شقّه الفاتيكاني، زوّد من قبل فريق السلطة بملفات حساسة جداً، وتردد أن بعض السلطة ألمح إلى نوع من الابتزاز في هذا المجال. أما على صعيد الورقة السياسية للمجمع، فجاءت بعض المصادفات والظروف، لتضع مسوّدة الورقة النهائية لبكركي على طاولة زعيم نظام «السنية السياسية». إذ تؤكد معلومات أن لقاء مباشراً واحداً على الأقل عقد بين المعنيين بالورقة المذكورة، على تلك الطاولة، إضافة إلى اتصالات أخرى غير مباشرة، أدّت إلى دسّ اسم رفيق الحريري، اسم علم وحيد في أعمال المجمع الماروني. علماً أن الورقة المذكورة لم تعرض على التصويت من قبل آباء المجمع بعد التعديلات التي أضيفت إليها عقب تلك الاتصالات.
غير أن اللافت أكثر أن النص السياسي الأخير للمجمع الماروني، زيدت عليه عبارات تدين أداء كميل شمعون عام 1958( وهو ما تكرر في نداء أيلول الماضي)، كما تدين الحلف الثلاثي أواخر الستينيات، بين شمعون والجميل وريمون اده، حتى أنها تدين رد الفعل الدفاعي للمسيحيين عند اندلاع الحرب عامي 75 ـــ 76. لتأتي المفاجأة مواقف صريحة من المعنيين مباشرة بإرث الكبار الثلاثة، مؤيدة للنص الذي يدين آباءهم...
ظل عون على رفضه، فتجمعت ضده كل وسائل الهجوم، مسيحياً، لبنانياً ودولياً، في الإعلام والسياسة والأرض وملحقاتها.
غير أن قوة الممانعة التي أظهرتها أكثرية مسيحية واضحة دفعت البعض إلى إعادة نظر. فأصدرت بكركي في 7 كانون الأول الماضي، ثوابتها المؤكدة أجندة المعارضين في ترتيب بنود الحلول. وأظهر سيد الصرح حرصاً استثنائياً على التنسيق مع عون. وهو الحرص الذي كانت آخر محطاته قبل أيام قليلة، خلوة مطوّلة لأحد الأساقفة البارزين في منزل عون، إضافة إلى «عشاء المطارنة» والزيارات المتكررة إلى بكركي. وبدا أن مساعي شق الموقعين لم تنجح...
عندها اغتيل بيار الجميل، في خطوة فجّرت الشارع المسيحي عنفاً آحادياً، وأنذرت بخطوط تماس داخله، مع استحقاق المتن النيابي المرتقب. وإزاء ذلك كله بدت أكثرية عون على صمودها، فجاء الكلام الدبلوماسي الغربي عبر إحدى القنوات الموثوقة قبل أيام قليلة: لا سقف أمنياً فوق رأس ميشال عون، ومظلّة الحماية الشخصية التي يعتبر بعض الغرب قادرا على نشرها، رفعت منذ الآن فصاعداً.
ماذا يعني هذا الكلام؟ المعنيون لا يزالون يثقون بقدرتهم على تخطّيه. فهو ليس تهويلاً محضاً، ولا حكم إعدام مبرماً. وبين الاثنين يظل حق المسيحيين في الدفاع عن حقوقهم، هو الأقوى.