جوزف سماحة
«لقاء صدفة» جمع بين اعتزام المعارضة بدء المرحلة الثانية من تحركها، والاحتجاج المطلبي على البرنامج الحكومي الاقتصادي.
كان الرئيس فؤاد السنيورة «مضطراً» للكشف عن مضمون البرنامج في صيغته النهائية بحكم الاقتراب من موعد انعقاد باريس ــ3. ولا شك في أن فكرة راودته وراودت داعميه في «حركة 14 آذار» بإمكان استخدام ذلك في سياق المنازلة المفتوحة مع المعارضة. يكفي، لذلك، التلويح بعمق الأزمة الاقتصادية والمالية، وعطف الأمر على وعود المساعدات والهبات والقروض الميسّرة، من أجل إظهار الخصم أنه يعمل ضد مصلحة لبنان. وبالفعل لم يتأخر «الآذاريون» كثيراً في تصوير معارضيهم كأشرار يقطعون الطريق على رفاه موعود أو، على الأقل، على دواء يقي لبنان أن يأكله مرض المديونية.
إلا أنه في ظل الانقسام الراهن كان لا بد لقوى الاعتصام المفتوح من أن تحاول أن تجد في البرنامج أداة جديدة من أدوات السجال مع السلطة والتعبئة ضدها. وهذا ما يحصل، ابتداءً من أمس، وتأسيساً على جانب من جوانب الخطة.
اقتحمت المسألة الاقتصادية ــ الاجتماعية الساحة، وتحوّلت، فوراً، إلى أحد عناوين الاختلاف الذي يقسم اللبنانيين.
اتّضح من حجم التحرك أمام مقر الضريبة على القيمة المضافة أن «المسألة» المشار إليها أقل قدرة على الحشد الجماهيري قياساً بتظاهرات سابقة دعت إليها القوى السياسية نفسها. ليس مستبعداً أن يكون ذلك مقصوداً مع اتضاح أن التحرك سيمتد في الزمن، وأنه قد يضطر إلى التفرّع من «الوسط» إلى الأطراف، ولكن ذلك لا يلغي أهمية التوقف عند هذا العنصر الطارئ من أجل تقديم عدد من الملاحظات:
أولاً ــ لا تستطيع قوة سياسية كبرى في لبنان، سواء في الموالاة أو المعارضة، أن تدّعي البراءة مما أصاب الحركة النقابية اللبنانية من ترهّل. يجب القول، هنا، إن إضعاف هذه الحركة، برعاية مباشرة من الدور السوري، لم يكن صدفة. كان الإضعاف صيغة من صيغ الدعم السوري لمشروع «إعادة الإعمار» الذي قاده الرئيس الشهيد رفيق الحريري. وكان القصد خفض تكلفة هذا المشروع وإزاحة عقبة اعتراضية كان يمكنها أن تتصدى لنتوءات بارزة فيه أبرزها انحيازه الواضح إلى الفئات الأكثر ثراءً.
وأدّى إنهاك الحركة النقابية، لاحقاً، إلى وضع اليد عليها عبر عملية معقّدة شاركت فيها قوى موجودة حالياً على ضفتي الانقسام السياسي. هناك من شجّع واستفاد، وهناك من تواطأ، وهناك من نفّذ. لكن يبقى الأهم هو أن نجاحاً تحقق في إلحاق الاتحاد العمالي العام بطرف سلطوي في زمن لم يكن يخيّل فيه لأحد أن هذا الطرف سيتطاير إلى شظايا متواجهة.
يمكن القول، استدراكاً، إن «التيار الوطني الحر» كان مهتماً بالمعركة السيادية وبالانصراف إلى تدعيم نفوذه في النقابات المهنية، فلم يعر انتباهاً كافياً للاتحاد العمالي. كما يمكن القول إن «حزب الله» كان منصرفاً إلى المقاومة وغير راغب في إثارة انقسامات هي من طبيعة المعارك المطلبية. إلا أن ذلك لا يعفي أحداً من المسؤولية، ولا سيما قوى سياسية موجودة حالياً في السلطة أو في المعارضة.
ليس غريباً، والحالة هذه، أن يبدو احتضان التحرك الحالي مفتقراً إلى قدر من الصدقية. والأمر كذلك سواء بالنسبة إلى الاتحاد العمالي العام المتحوّل، منذ فترة، إلى قوقعة فارغة، أو إلى أحزاب وشخصيات معارضة، بعضها وافد حديثاً إلى العمل السياسي الداخلي فضلاً عن ضعف تراثه بالتعاطي مع المسألة الاقتصادية ــ الاجتماعية. لا بل ثمة قوى سياسية رئيسية في التحرك المعارض لم تعرف، حتى الآن، تحديد ملامحها الرئيسية في هذا المجال وما زالت تتأرجح في نقد السياسات الرسمية بين نقد من على يمينها ونقد من على يسارها!
إن مشروعاً مثل المشروع المقدم إلى باريس ــــــ3 يشترط، من أجل معارضته، وجود مرجعية فكرية وأيديولوجية، وتطوير وجهة نظر مخالفة تنبني على خلفيات وضمنيات تتمايز عن تلك التي نهض عليها المشروع.
يمكن أن يقال في خطة الحكومة ما يقال، إلا أنه يستحيل القفز فوق واقع أنها متماسكة وأنها تنتمي إلى مدرسة في التعاطي مع هذه الشؤون تكاد تكون المدرسة المهيمنة (ولو مع قدر من التراجع) في المؤسسات النقدية الدولية، وفي الهيئات التي يعنى لبنان بالانضمام إليها (منظمة التجارة، الشراكة الأوروبية...). لا نستطيع قول الشيء نفسه عن التيارات الاعتراضية. ثمة أسئلة كثيرة مطروحة على هذه الأخيرة: أي دور للدولة؟ أي نظام ضريبي؟ أي موقف من التعليم الرسمي؟ أي سياسة حيال الاستقرار النقدي وسعر الفوائد؟ كيف يعالج الدين العام؟ أي نهج في مكافحة الفساد؟ أي خطوات ضد البطالة والهجرة؟ ما هي نسبة النمو الممكنة وكيف؟ أي توزيع قطاعي للناتج الوطني؟ ما موقع الخدمات الجديدة؟ كيف نوفق بين سياسة معينة ومواقف العالم الخارجي؟ هل هناك نية فعلية لأوسع حملة تنسيب نقابي يعيد إلى هذه الهيئات حيويتها؟ إلخ...
قد لا تكون قوى المعارضة متوافقة كلها في تقديم أجوبة موحّدة عن هذه التساؤلات. إلا أن ذلك لا يعفي من التعبير عن همّين:
الأول هو أنه ليس معروفاً عن طرف واحد في هذه المعارضة امتلاك توجّه جدي ومتماسك في هذا المجال. الثاني، والأهم، هو أن المواجهة التي تخوضها المعارضة لم تعد تحتمل مثل هذا النقص. ففي لبنان، اليوم، «معسكران» يطالب أحدهما بتغيير شامل أقلّه المشاركة الفعالة في السلطة، وأقصاه لعب الدور المركزي فيها بعد انتخابات نيابية مبكرة. لذلك ليس مسموحاً الجمع بين الدعوة إلى إعادة تأسيس شاملة للسلطة و«الاعتذار» عن عدم وجود تصوّر واضح وملموس لكيفية ممارستها.
لا نعرف الجديد الذي قد يضيفه تبنّي الاعتراضات المطلبية في سياق هذه المواجهة السياسية المفتوحة. إلا أنه بات جزءاً منها. وأقل واجبات المعارضة حيال جمهورها، لا بل، أيضاً، حيال الجمهور الآخر، أن تبلور معالم خطة اقتصادية ــــــ اجتماعية بديلة. إلا إذا كان احتجاج المعارضة هو على عدم المشاركة فقط؟ أو إلا إذا كانت غير مقتنعة بأنها ستدعى قريباً إلى تحمل عبء اتخاذ القرارات؟
***
هذا على مقلب المعارضة، وفيه ما يثير القلق. أما على مقلب الموالاة، فلقد حصل ما يثير الحزن. استقبل رئيس الحكومة وفوداً من «نقابيي 14 آذار» رفعوا إليه مطالب من نوع رفع الحد الأدنى للأجور، ضمان الشيخوخة، عدم خصخصة المؤسسات الرابحة، ربط زيادة الضرائب بزيادة التقديمات، اعتماد شطور تصاعدية للضريبة، ربط زيادة ساعات العمل في القطاع العام بزيادة الرواتب، عقلنة الرسوم على المشتقات النفطية، إلخ... إنهم نقابيون لم ينجحوا تماماً في تغيير جلدهم، ويريدون، مع ذلك، ترخيصاً لاتحادٍ عماليّ عام جديد! لا نعرف الأجوبة التي حصلوا عليها من السنيورة وجهاد أزعور، إلا أن ما يمكن تأكيده هو أن لا مكان لهم حيث هم إلا إذا أرادوا أن يكونوا من صنف «النقابيين الصفر» الذين يرون أن المطالب تحققت متى استقبلهم «الزعيم» في قصره.