حسن عليق
دعيت وسائل الإعلام أمس لتصوير تمثيل جريمة قتل في بيروت. لم يمتثل المتهم للمحقق ولم يمثل جريمته. تعيد هذه الدعوة السؤال عن «العبرة» التي تتوخاها الأجهزة الأمنية والقضائية من وراء عرض المتهمين على الشاشات قبل صدور الحكم القضائي بحقهم. ولماذا الحكم عليهم إعلامياً واجتماعياً دون الالتفات إلى أن أحد أهداف العقوبة هو الإصلاح؟

الساعة الحادية عشرة والنصف في ثكنة بربر الخازن في فردان. ينتظر الزملاء الصحافيون والمصورون موعد تمثيل الجريمة التي حصلت قبل خمسة أيام في كليمنصو. ننتظر عشر دقائق ليأتي بعدها عنصران من قوى الأمن الداخلي بسيارة عسكرية، ويطلبان منا أن نتبعهما. يوصلاننا إلى المبنى الذي وقعت فيه جريمة قتل المدعو ابراهام أسادور اونسيان بتاريخ 10/1/2007. ينتشر عناصر الأمن الداخلي في محيط المبنى. المدخل مظلم، وباب غرفة الناطور مقفل ومختوم بالشمع الأحمر. أمامه على الأرض بقع دم مطبوعة بآثار الأحذية، وبقربها قفازات من النوع الذي يستخدم في المختبرات. وفي الزاوية لباس أبيض، يبدو أنه ما يرتديه عناصر الأدلة الجنائية أثناء مسح مسرح الجريمة، لكن لا أحد يستطيع أن يفسر بقاءها في ذلك المكان. تجلس فتاة على الدرج مقابل المصعد. تذرف دموعها بصمت. نسألها عن علاقتها بالقتيل، فترد أنها من سكان البناية. تتحدّث عن ابراهام، ابن الـ 84 عاماً، وكيف كان يعامل الجميع كأب، وكيف أنها تشعر أنها فقدت أحد أفراد عائلتها: «كان يعمل في البناية منذ 39 عاماً، كان واحد من كل بيت». يبدأ المصورون بالتقاط الصور للمكان. يتدخل أحد الأمنيين قائلاًً: «خذوا لقطات وانسحبوا حتى يرتاح الريّس». يحضر القاضيان فوزي خميس وجوزيف معماري. يطلبان من العناصر فتح باب الغرفة. يحرق أحدهم خيط ختم الشمع الأحمر. تفتح الغرفة لتخرج منها رائحة دماء جفت على الأرض والأثاث. غرفة صغيرة ككل غرف النواطير. فيها خزانة قديمة وجهاز تلفاز وسرير وثياب مبعثرة ودماء منتشرة في كل مكان. يؤتى بالموقوف مقيد اليدين. ينظر إلى لا مكان. لا ترف جفونه أمام إضاءة التصوير أو فلاشات الكاميرا. رجل في العقد الخامس من عمره، مع أن ملامحه توحي بعمر أكبر. محنيّ الظهر. يبدو عليه الإنهاك. لا يحرك شفتيه. يستمر بالنظر إلى مجهول. تفك قيوده ليدخل إلى الغرفة. يقف بجانبه رتيب التحقيق وضابط برتبة نقيب، وفي مقابله القاضيان. على باب الغرفة عسكري بلباسه المدني «ينظم» حركة المصورين. يبدأ رتيب التحقيق بالتحدث مع الموقوف: «احك لنا لنرى»». تبدأ بعد ذلك سلسلة من الأسئلة تبدو أنها مستندة إلى التحقيق معه. يقول المحقق: «شو صار معك؟». لا يجيب الموقوف. يبدأ جسمه بالارتعاش. يعيد المحقق السؤال: «احك لنا»». لا يجيب، تزداد حركة الموقوف اللاإرادية. يقول المحقق: «حكيت بالأمس واتفقنا معك أن ننتهي بسرعة لتعود وترتاح. يلا احكِ. بماذا ضربته؟». يجيب بصوت هو أقرب إلى الصمت: «لا أعرف». «من ضربه؟». يستمر الموقوف بكلام خافت: «نسيت». «نسيت؟» يصرخ المحقق، يمسك رأس الموقوف بيديه، تزداد الرجفة في يديه وقدميه. «ما الذي كان يعرض على التلفزيون؟ فيلم مصري؟» يجيب: «لا أعرف». «ماذا شربتما؟ شاي؟ كم سيجارة دخنت معه؟» يجيب بتمتمات غير مفهومة. يزداد جسده ارتعاشاً. «أتريد سيجارة؟» يسأله المحقق طالباً منه الجلوس على السرير الملطخ بدم بهت لونه كأن ماءً دخل فيه. يرفع يده مبعداً سبابته عن الوسطى ليلتقط السيجارة، ويبدو أنه لا يستطيع أن يسيطر على جسمه الذي يوحي بارتجافه كأنه يقف في ريح مثلجة. يبدأ بالبكاء. يهمس أحد العسكريين: «تمثيل». يكرر المحقق أسئلته ويجيبه الموقوف بهمهمات لم يفهمها أحد، ليصرخ المحقق مباشرة: «بس مسخرة على عرضي بقا، قوم وقاف» يصرخ بصوت أعلى: «قوم». يقف المتهم دون أن تتوقف رجفته. يستمر المحقق بـ«الاستجواب»: «أخبرنا بماذا حضّر لك الشاي، بالركوة أم بالابريق»؟ يجيب: «ما بعرف، ناسي». تتكرر الأسئلة: من ضربه؟ بماذا؟ من اوقع الشاي؟ كم كأساً من الشاي شربت؟ وتتكرر الأجوبة نفسها، وبالصوت الخافت نفسه: ما بعرف، ما بذكر، يجوز سيدنا، راسي عم يوجعني. يعيد المحقق السؤال: «شو كان في عالتلفزيون؟ فيلم مصري أو كرتون؟» يجيب المتهم: «كان في حيوانات». ويعيد المحقق طرح الأسئلة، فيبدأ المتهم بالإجابة ليقول إنه شرب فنجاني شاي، وإنه هو من أوقع أحد الفناجين على الأرض. وعندما يسأله المحقق عن المال والمكان الذي وضع فيه ثيابه يعود للنسيان. ينتهي «التمثيل» باعتذار المحقق من «الريّس»، فهو لم يستطع إتمام «مهمته». بعد الانتهاء، ذكر لنا أحد الحاضرين أن المحقق قال للمتهم: «شو بدك تاكل قتلة مرة تانية؟»، وأنه أعاد هذه الجملة أكثر من مرة. اتصلت «الأخبار» بمصدر قضائي رفيع لاستفساره عن الموضوع، فأكد لنا أن القاضيين معماري وخميس هما من المشهود لهما بالنزاهة، وأنه لو حصلت هكذا حادثة أمامهما لاتخذا إجراءاتهما القانونية بشكل فوري وصارم. وذكّر المصدر بما كان قد جرى أمام محكمة التمييز منذ حوالى ثلاث سنوات مع الرئيس رالف رياشي عندما ادّعى أحد الموقوفين القصّر أنه تعرض للضرب من قبل أحد العناصر الأمنية، فقام رياشي بالتحقيق مع العسكري بشكل فوري وحكم عليه بالسجن مدة عشرة أيام بعدما ثبتت التهمة بحقه.
نترك ساحة الجريمة ولم نعلم ما هي الحكمة من وراء دعوة وسائل الإعلام لتصوير تمثيل جرائم من قبل متهمين ما زالوا متمتعين بقرينة البراءة؟ ولماذا المساهمة بإدانتهم إعلامياً واجتماعياً قبل صدور الحكم القضائي بحقهم، وخاصة أن أكثر وسائل الإعلام تعرض صورهم بدون أي تمويه لملامحهم؟