إبراهيم الأمين
يرفض الياس المر الاستقالة. يقول إنها خطوة في الفراغ. ولو أنه يضمن استقالة وزير آخر معه لفعلها. يجيبه شارل رزق بأن الخطوة تعكس انحيازاً سياسياً ولا فائدة منها. والأمر ينتهي عند ترك الفريقين بلا وسيط يهدئ من روعهما. ثم إن العالم في الخارج ليس في انتظار استقالة الحكومة حتى يحرك المبادرة التي يمكنها حل الازمة اللبنانية. لكن الرجلين يدرسان الأمر من زاوية الثمن السياسي المقابل، لأن الوقائع المحلية تقول بأن الاول يغادر الى بطالة سياسية قد تدوم من دون ضمانات باستئنافها على خطى والده. أما الثاني فهو ينتظر العبور من الوزارة الى الرئاسة. وما لم يحمل بيده ورقة الترشيح الفعلية من القوى القابضة فإن خروجه يعني انتحاراً سياسياً وإن تم ذلك باحتفال. ومع ذلك، فلا أحد من العاقلين يقول إن استقالة الحكومة من شأنها حل الازمة، لأنه لا أحد يضمن تأليف بديلتها سريعاً او وفق برنامج آخر عما هو عليه الآن. لكن استقالة المر ورزق من شأنها التحول الى السلّم الذي تحتاج إليه القوى كافة، للنزول عن شجرة التصعيد المرتفعة، وهو السلم الذي يتيح لآخرين سماع الفرقاء عن قرب ومحادثتهم بهدوء يقود الى حل آخر.
لكن فريق السلطة ليس في وارد شيء. الاستفتاء الشعبي يحرّضه على العنف السياسي ويرفع منسوب التوتر في حركته وفعله. وكل الكلام الشكلي والمنمّق أو غير ذلك لا يفيد في تقديم صورة الشارع على خلاف ما هي لناحية أن غالبية لبنانية ترفض استمرار الحكومة الحالية.
في التقييم الاولي لخطوة أمس، فإن صورة الوضع الداخلي سوف تتكرّس على واقع جديد لناحية أن قسماً كبيراً من اللبنانيين يريد تغييراً سياسياً جدياً، وهو قسم اكبر بالتأكيد من الفريق الذي يرى نفسه مرتاحاً الى واقع الحال الآن. وإذا كانت التطورات الحاصلة على الارض تفرز واقعاً شعبياً قاسياً لحدة الانقسام فيه، فإن فريق السلطة يبدو ميّالاً بقوة نحو جعل التحرك المضاد للحكومة تحركاً له خلفية طائفية ومذهبية، وهو ما يظهر يومياً في تعبيرات فريق السلطة عن قراءتهم للتحرك المعارض وعن رفع مستوى تدخل الجهاز الديني التابع لفريق السلطة في التحريض على البعد الاقلوي المذهبي والشعبي والاجتماعي، وهو تحريض سوف يتوسع يوماً بعد يوم، لأن قوى السلطة لم تعد تجد ما تقوله في خطابها سوى العبارات المملة عن المؤامرة السورية والايرانية وما الى ذلك من تعابير تجعل من بقية اللبنانيين مجرد دمى وأدوات، ويصل الكلام عنهم حدود نفي المواطنية اللبنانية عنهم. وهي حال تعبّر، كما الخطاب السياسي لقادة السلطة، عن رغبة في جعل الشراكة رهن شروط من النوع الذي لا يتيح قيام دولة كاملة، بل يدفع أكثر نحو مواجهة دائمة لا تتيح استقراراً فعلياً.
ومع أن فريق السلطة يرى نفسه أكثرية ساحقة بين اللبنانيين فإن السؤال نفسه يظل مطروحاً بوجه هذه القوى: ما الذي يمنع استفتاء الناس من خلال انتخابات نيابية جديدة؟
ومع ذلك فإن تحرك أمس كشف عن امور عدة بينها:
اولاً: تأكيد قوى المعارضة على تماسكها وعلى تثبيت التحالف في ما بين قواها كافة، وأن محاولات تعطيل قدرتها على الحركة من خلال المبادرات السياسية لا تؤدي غرضها فعلياً.
ثانياً: تأكيد قوى المعارضة أنها تتمتع بتماسك داخلي ووضوح في إعداد الخطط والتعامل معها بمرونة وجعل كوادرها يتناغمون بطريقة تظهر التحرك فعالاً وناجحاً، وهو الأمر الذي يبدو بالنسبة للآخرين مشكلة لأنهم تعوّدوا على إدارات مختلفة منها السياسي والمالي والتنظيمي وخلاف ذلك. وأظهرت المعارضة قدرة تنظيمية عالية جعلت تحركها واضحاً في حجمه وأبعاده برغم شغب “زعران ميليشيات السلطة” بحسب تعبير قادة المعارضة.
ثالثاً: تثبيت الصورة العامة للمشاركة في فعاليات المعارضة. وكان إضراب أمس وتحرك المعارضين في كل المناطق تعبيراً عن حجم انتشار القوى المعارضة في كل لبنان.
رابعاً: تحقيق المعارضة اختراقات جدية في جدار السلطة الشعبي. وبينما نام تيار “المستقبل” في الشمال والبقاع وصيدا على أن مناطق نفوذه التقليدية ليس فيها معارضون كما تذكر وسائل إعلامه ليل نهار، فوجئ التيار امس بأن الإضراب شلّ أحياءً كثيرة في مدينة طرابلس، وقطعت الطرقات في مناطق عدة من عكار والشمال، واضطر مناصرو الحكومة الى اعتماد أساليب عنفية في مواجهة المتظاهرين، أدّت الى احتكاكات ومواجهات أوقعت قتلى وجرحى في صفوف المتظاهرين.
خامساً: أكدت المعارضة قدرتها على المبادرة متى وجدت الحاجة الى ذلك، وامتلاكها ما يكفي من الأوراق للقيام بتحركات مختلفة تقود الى ما تفترضه هدفاً مشروعاً. وهي، مع قرار تعليق التحرك، إنما تعطي إشارة جديدة الى أنها ليست صاحبة مصلحة في مواجهة مفتوحة من النوع الذي يقود الى خراب كبير، دون ان يعني ذلك انها ستكون رهينة وضع كهذا.
ظهر امس بدا لبنان أنه أمام سلطة رسمية تستند الى قوى شعبية حقيقية لكنها باتت تعمل تحت وصاية الخارج ودعمه، مقابل سلطة شعبية قادرة على تعطيل البلاد برمّتها، وهو سبب كاف لتعيد السلطة حساباتها وتتجه من جديد صوب صياغة موقف يقود الى حل. وبالتالي فإن المبادرة الفعلية هي الآن في يد فريق السلطة ومن معه في الخارج. فإذا قرر تجاهل يوم امس واعتباره مجرد غبار، فهو يدفع الأمور نحو مستوى أعلى من المواجهة وفي المرة المقبلة، سوف تكون السلطة في موقع الراغب في استخدام قواها، ما يعني أن تجاهلها السياسي واستمرارها على موقفها ودفعها الأمور نحو مواجهة جديدة مستخدمة كل قواها، تقود عملياً الى مواجهة من النوع الذي يجعل لبنان أمام لحظة الخطر الشديد الذي يدل على انفجار وشيك.
وإذا كانت قوى السلطة وجدت نفسها أمام استحقاق جدي فهي فكرت ودرست وعملت على كيفية استنفار قواعدها بغية اللجوء أيضاً الى الشارع من زاوية القول إنها تملك هي ايضاً القدرة العملانية في الشارع على منع المعارضة من احتلال الشارع، وهو الأمر الذي اقتضى تعبئة من نوع مختلف، بدأت امس باجتماعات واتصالات منذ الصباح وانتهت الى الطلب من مفتي الجمهورية محمد رشيد قباني إذاعة بيان أشبه برسالة إنذار لم يكن ممكناً صدورها عنه لولا أن فريق السلطة هو من طلب ذلك. ومرة جديدة يعمل وليد جنبلاط وسمير جعجع على نقل المواجهة الى بيروت بغية القول بأن السنة هم هدف المعارضة وأن الشيعة هم من يقود المعارضة.