جوزف سماحةكان الخميس، 25 ك2، يوماً طويلاً. كان، أيضاً، يوماً استثنائياً. بدأ في باريس حيث يعقد المؤتمر الداعم للحكومة اللبنانية. انتقل إلى بيروت حيث انفجرت المواجهات. واختتم في كل من باريس وبيروت بإطلالات إعلامية لقادة الموالاة من أجل إعلان الانتصار، أو ما يشبه الانتصار، على جبهتين، الميدانية والمالية.
فقط القراءة السطحيّة تقول إن العلاقة بين باريس ـــ3 وأحداث بيروت هي علاقة تناقض. فقط القراءة السطحيّة تقول إن هناك من قدّم دعماً إلى لبنان بالرغم ممّا يجري في عاصمته. الحقيقة أن الدعم تأمّن بسبب ما كان حاصلاً. العلاقة بين باريس ـــ3 والوقائع البيروتية علاقة تكامل. لقد عشنا، بفضل البث المباشر، تفاصيل صفقة «مافيويّة»: الدفع في باريس وتسليم البضاعة في بيروت. الدفع مباشر، بنسبة قليلة، ومؤجل، بنسبة أكبر. أما البضاعة فـ«خدمات أمنية» تؤمّنها قوى الموالاة وتكون على شكل العيّنة الخاصة بذلك الخميس الأسود. الثقة في «الصفقات المافيويّة» مفقودة. لذا يحق لنا أن نتوقّع دفعاً أكثر مقابل خدمات أكثر.
***

لنعد، الآن، إلى الثلاثاء 23 ك2. إنه يوم الإضراب العام الذي دعت إليه المعارضة الوطنية اللبنانية. إلا أنه تحوّل إلى اليوم الذي قرّرت فيه قوى الموالاة التصدي الأهلي لذلك خارج أطر المؤسسات المولجة حفظ الأمن. اعتقد البعض، ببراءة، أن الآذاريين لن يقدموا على ما قد يعرقل باريس ـــ3. ولكن تبيّن، بسرعة، أن ما أقدموا عليه هو، بالضبط، ما يعزّز فرص النجاح للمؤتمر وما يشجّع الدول المانحة، أو بعضها، على المنح.
ولكن ماذا لو لم يكن ذلك الثلاثاء، لبنانياً، لا يوم الإضراب ولا يوم التصدي الأهلي له؟ لقد اكتشفنا، أمس، عبر الصحافي الأميركي ديفيد أغناطيوس في «واشنطن بوست»، أن يوم الثلاثاء كان يوم إعلان كوندوليزا رايس (المتوجّهة إلى باريس ـــ3) عن الاستراتيجية الأميركية الجديدة في الشرق الأوسط. الاسم الذي أطلقته على هذه الاستراتيجية الجديدة هو: «إعادة الاصطفاف». إنها الاستراتيجية التي بدأ العمل عليها بعد عدوان تموز على لبنان والمصير الذي آل إليه. وحسبما قالت رايس لأغناطيوس فإن حرب لبنان أدخلت وضوحاً إلى الشرق الأوسط، فهناك من جهة المتطرفون (إيران، سوريا، حزب الله وحماس)، وهناك، من جهة ثانية أهداف التطرّف (اللبنانيون، العراقيون والفلسطينيون)، وهناك من جهة ثالثة مقاومو التطرّف (السعوديون، المصريون والأردنيون). أضافت رايس: «هناك حركة عابرة للمنطقة جعلتها حرب لبنان واضحة مثل البلّور. لا نستطيع أن نترك الأمور حيث هي...». ما لم تقله رايس قاله غاري سيك (أستاذ في جامعة كولومبيا ومستشار سابق لدى جيمي كارتر وخبير في شؤون إيران والخليج). لقد تحدث عن تحالف ترعاه الولايات المتحدة ويضم إسرائيل من جهة والمعتدلين العرب من جهة ثانية.
إذا جمعنا أطروحة رايس مع التصدي للإضراب، (وهو تصدّ حاول الإمساك بالمبادرة بعد يومين) استنتجنا أن ما حصل في الأيام القليلة الماضية هو تفعيل الساحة اللبنانية، عبر قوى الموالاة، في إطار الاستراتيجية الأميركية الجديدة. إنه تفعيل جرى تطويبه في باريس ـــ3 و... تمويله.
***

لنعد، مرة أخرى، إلى الوراء. كانت الإدارة الأميركية، بفعل التعثّر في العراق، الذي فاقمه التعثّر الإسرائيلي في لبنان، وإلى حد ما في فلسطين، في خضمّ مراجعة لاستراتيجيتها. ونزعم، اختصاراً، أنها كانت أمام خيار تسووي يمثّله تقرير بيكر ـــــ هاملتون وأمام خيار تصعيدي تمثّله دراسة كاغان ــــــ كايان. اختار جورج بوش التصعيد. وعبّر عن ذلك في خطته الجديدة في العراق القاضية بتعميق الحرب وتوسيعها. وهو أمر عاد إليه في خطاب «حال الاتحاد» متوقفاً أمام ما يجري في لبنان ومستبقاً الإضراب العام للمعارضة وحاضّاً على مواجهته.
التصعيد في العراق جزء من مشهد عام، من سياسة أميركية تريد استئناف اندفاعتها العدوانية بزخم أكبر. ويتضمن ذلك مروحة إجراءات منها: زيادة الحشد البحري في الخليج، نشر صواريخ باتريوت، الهجوم في الصومال، رفع عدد القوات في العراق، التحرّش بإيران، قطع الطريق على أي حوار مع سوريا، إعطاء صراع «المعتدلين العرب» مع التطرّف الأولوية على النزاع مع إسرائيل، تحريض الرئاسة الفلسطينية على السلطة الوطنية وعرقلة قيام حكومة وحدة، إعادة صياغة الاحتلال لأفغانستان وتدعيمه عسكرياً ومالياً، رعاية الانقسام اللبناني والسعي إلى ترجيح طرف على طرف...
إنه هجوم شامل، إذاً، قرّرته الإدارة رداً على إحباطات واجهت سياستها في السنوات الأخيرة. لبنان ساحة من ساحات هذا الهجوم.
***

ثمة جديد في هذا الهجوم الشامل، وهو جديد يطال، بشكل خاص، الأطراف الذين تعيّنهم رايس في استراتيجية «إعادة الاصطفاف»: العراقيين، الفلسطينيين، اللبنانيين. الإضافة هي أن واشنطن ستقوم بما عليها لتوفير دعم من المجتمع الدولي، وستقوم بما عليها لدفع اللاديموقراطيات العربية إلى حماية الديموقراطيات الناشئة، ولكن... ولكن يجب على من يتوقع تلقي المساعدة أن يشارك بجهد خاص في «المعركة المشتركة».
وهكذا ثمة جدول أعمال يفترض برئيس الوزراء العراقي التزامه، هو جدول أعمال سياسي وأمني يوجب عليه أن يقدم كشف حساب كل فترة عن دوره، وعن نشاطه، وعن مساهمته في تأمين النجاح لمشروع الاحتلال. على المالكي أن يعيد التموضع، وإلا فإن التحذيرات الموجّهة إليه ستعرف طريقها إلى التنفيذ.
كذلك إن على قوى «الاعتدال» في الساحة الفلسطينية أن تغادر تردّدها ومراوحتها في المكان نفسه. لم يعد وارداً مساعدة محمود عباس بانتزاع «تنازلات» من إسرائيل، إذ يمكن، في هذا المجال، الاكتفاء بتحريك شكلي لعملية التفاوض. المعنى الجديد لمساعدة أبو مازن هو مدّه بالمال والسلاح ضد... الحكومة المنتخبة ديموقراطياً. وإذا أراد السير في هذه الطريق فإن هناك من سيمسك بيده.
***

ينطبق هذا المعطى الجديد على لبنان. لقد انتهى، من المنظور الأميركي، عهد احتضان الفريق الحاكم من دون أن يكون له دور فعّال ومباشر في مواجهة القوى المصنّفة معادية.
لم يقم هذا الطرف بواجباته. وإذا استثنينا «ثورة الأرز» (وهي «ثورة» مغدورة حسب رأي متحمسين لها)، فإن الجهد المركزي كان من نصيب ما يسمى «المجتمع الدولي» (قرارات مجلس الأمن) أو من نصيب... إسرائيل. وفي كل مرة كان «الآذاريون» يريدون الحوار لنزع سلاح المقاومة، ويطلبون تمديد المهلة مرة ومرتين، ويتقدمون نحو السلاح الفلسطيني خارج المخيمات أو داخلها ويتراجعون، ويرتاحون لأهداف العدوان الإسرائيلي، ولكن عبر موقف يجمع الحياد والإدانة اللفظية والتفاوض للتجاوب مع الشروط مع أخذ الوضع الداخلي في الاعتبار.
بدت الموالاة اللبنانية، لفترة، عالة على «المجتمع الدولي»، خجولة من التحاقها به، خاضعة لخطاب نقدي حيال أميركا وإسرائيل. اكتفت بتقديم «خدمات» سياسية وإعلامية. استمرت حاكمة رغم انسحاب وزراء. جازفت بكسر التوافق الداخلي. ضغطت لتفسير متشدّد لـ1701. ركّزت هجومها على المقاومة. رفضت أي مشاركة فعلية في السلطة. اشتغلت على تطويق البعد العربي والإسلامي لمنع أي استثمار للصمود ضد إسرائيل...
لم يعد ذلك كافياً. لم يعد كافياً في ظل تقدّم الأعمال لإنشاء «حلف المعتدلين العرب»، وفي ظل الأجندة الأميركية الجديدة التي تشترط دوراً مباشراً لمن تسمّيهم رايس. لا بد، إذاً، من التقدّم خطوة. لا يجوز اتخاذ وضعيّة الدفاع لحظة استئناف الإدارة الهجوم العام.
على السلطة اللبنانية أن تتمثّل ببوش: إنه معزول داخلياً أكثر منها، وفاقد للدعم الشعبي أكثر منها، ومحروم الأكثرية النيابية أكثر منها، ومكلف لبلاده مادياً وبشرياً أكثر منها، ومع ذلك فهو يريد أن يساعدها بأكثر ممّا تبدي استعداداً لمساعدة نفسها! كلا. لم يعد ذلك جائزاً. ولا يعقل لبوش أن يتحمّل معاملة من هذا النوع وهو الذي يجازف بمكانته في التاريخ ومكانة حزبه في السلطة.
***

نعود، هنا، إلى ثلاثاء التصدّي للإضراب وتحويل مواجهات بيروت، الخميس، إلى رسالة اعتماد موجّهة إلى باريس ـــ3. الحدثان علامة على انتقال قوى لبنانية إلى المشاركة الفعّالة والميدانية في استراتيجية «إعادة الاصطفاف». لهذين الحدثين ما بعدهما على صعيد سلوك السلطة في الأزمة المفتوحة والحلول المقترحة لها. لهذين الحدثين تأثير على صياغة المعارضة لاستراتيجيتها، لا فقط لتكتيكاتها. لهذين الحدثين صلة مباشرة بما أكدته «واشنطن بوست» أمس لجهة دور المخابرات المركزية في لبنان.