جوزف سماحة
ها نحن نعود إلى اصطفاف 12 تموز. تغيّر الموضوع ولم يعد عدواناً إسرائيلياً عسكرياً على لبنان. لكن خريطة المواقف هي نفسها. تقود الولايات المتحدة تحالفاً واسعاً يضم دولاً غربية نافذة ودول «الاعتدال العربي» تحت شعار مركزي هو الدفاع عن الحكومة اللبنانية الحالية وتوازنها الراهن.
إسرائيل ليست في الصورة. لنقل إنها ليست فيها حتى الآن. وليس مستبعداً أن يكون مطلوباً منها الابتعاد. والواضح أن الانكفاء الإسرائيلي شرط من شروط الدور المتعاظم لـ«حلف المعتدلين العرب».
منذ حرب تموز والهدف الأميركي المعلن هو إنشاء هذا الحلف. لقد سعت إليه كوندوليزا رايس، قبل أسابيع، بلا نجاح كبير. لقد أفشلها إيهود أولمرت لأنه لم يكن جاهزاً للتظاهر بأنه مستعد لتسوية ما. وبما أن جعبتها بقيت فارغة من الناحية الإسرائيلية فقد اكتفى «المعتدلون العرب» بالتعبير عن النوايا والاستعدادات من دون الذهاب في التورّط أكثر. ولقد انعكس ذلك على سياستهم اللبنانية بالدفاع عن موقع يوحي أنه على مسافة متساوية من الأطراف جميعاً.
تجددت المحاولة الأميركية لإنشاء هذا الحلف تأسيساً على المبادرة التي أطلقها أولمرت وكانت الإدارة في حاجة إليها بعد الانتخابات النصفية، وبعد التحوّل الملموس في السجال في شأن مصير المغامرة العراقية. وفي سياق ما أعلنه أولمرت بات ممكناً للجناح الفلسطيني في «حلف الاعتدال» أن يتشدّد، وللجناح اللبناني أن يتجاهل الدعوات إلى حكومة وحدة وطنية، وللعواصم العربية المعنيّة (القاهرة ــ الرياض، عمان) أن تتقدم خطوة نحو الانحياز في ما يخص لبنان.
دخلنا، منذ أيام، في المرحلة الثانية التالية للعدوان الإسرائيلي. في المرحلة الأولى كان الرهان على الوضع الداخلي والقوات الدولية من أجل تعديل قواعد اللعبة. انتهت إلى فشل. أما المرحلة الثانية والحالية فهي التي تشهد تدخلاً سافراً للاعتدال العربي يعلن أن الحكومة اللبنانية جزء عفوي من المحور الإقليمي العامل تحت المظلّة الأميركية.
لقد كان هذا التطور متوقعاً. ومن مقدماته إقدام واشنطن على سحب التطلّب الديموقراطي من برنامجها للشرق الأوسط الكبير. كان لا بد من ذلك بعد التعثّر العراقي لكن أساساً بحكم الاكتشاف المتأخر لواقع أن قوى سلبية حيال المشروع الأميركي هي الأكثر نجاحاً في احتلال أي مساحة يتراجع القمع الرسمي العربي عنها. أدّى سحب التطلّب الديموقراطي إلى إزالة شائبة كانت تعكّر العلاقات بين الولايات المتحدة والنظام العربي الرسمي. لقد بدا لفترة أن أنظمة عربية ترد بتشدد وطني وقومي على ضغط تتعرض له للإقدام على قدر من الانفتاح. إلا أن التسوية الجاري التوصل إليها تلغي، من جانب هذه الأنظمة، الهمّين الوطني والديموقراطي.
لم يكن ممكناً لهذه العملية أن تستمر وتنجح من دون عنصر خارجي. بمعنى آخر إن النظام العربي كان سيبدو متهالكاً ومتراجعاً إلى هاوية لا قعر لها إن لم يجد نقطة ارتكاز. لقد تم إيجاد نقطة الارتكاز هذه عبر انقلاب جرى إدخاله على الأولويات: لم يعد المشروع الأميركي ــ الإسرائيلي يمثّل خطراً على المنطقة وشعوبها لأن الخطر الفعلي كامن في المشروع... الإيراني! وهكذا فإن ما كان سيبدو خيانة أمام أعداء تاريخيين أصبح يمكن تقديمه بصفته تصدياً لعدو صاعد يريد الهيمنة على المنطقة. لقد بات معنى العروبة عند البعض هو العداء للفرس لا لإسرائيل ورعاتها وحلفائها. لكن «العروبة الجديدة» هذه لا يمكنها أن تنهض، فوق عنصريتها، إلا على طرح شديد المذهبية يصنّف قطاعات واسعة من الشعوب العربية بأنها طوابير خامسة ويخلط بين تشدد «حزب الله» ضد إسرائيل مثلاً وبين تراضي بعض العراقيين حيال الاحتلال. غير أن المفارقة الكبرى والخطيرة هي أن أصحاب هذه النظرية يلومون إخوتهم في العراق، بالضبط، على مقاومة الاحتلال، لا بل يدعون جهاراً نهاراً إلى ديمومته خلافاً لرأي العراقيين ولرأي أغلبية من... الأميركيين.
إن الغطاء الأيديولوجي لحلف «المعتدلين العرب» ما زال هجيناً. وهو لن يستطيع إنتاج تماسكه الداخلي إلا بالقضاء على المقاومة الراديكالية في فلسطين وعلى مقاومة الاحتلال الأميركي في العراق وعلى إرغام المدن اللبنانية على استكمال تغيير جلدها وقطع العلاقة بتاريخها القريب.
لقد أحسنت رايس وصف الحدث الأبرز والأكثر تأثيراً في البيئة الرسمية العربية هذا الصيف. قالت بوضوح إن العدوان الإسرائيلي ليس عنصراً حاسماً لأن العنصر الحاسم هو الصمود في وجه هذا العدوان. ولاحظت أن هناك، بين الحكام العرب، من عبّر عن خشيته من هذا الصمود واعتبر نفسه مضطراً إلى المساهمة في تطويقه. ولقد جرت محاولة للتطويق في لبنان. كان لا بد لها، بعد التعثّر، من أن تلقى مدداً من الذين يستشعرون الخطر نفسه.
ليس غريباً، والحالة هذه، أن نشهد في لبنان هذه المحاولة المستميتة التي تقوم بها السلطة من أجل فرض الطابع المذهبي للخلاف. ففي وقت تجهد فيه المعارضة لتأكيد «وطنيتها» يجهد أنصار الحكومة لتشكيل الأوعية المذهبية القادرة، أكثر من غيرها، على استقبال الدعم الموعود من «المعتدلين العرب».