جوزف سماحة
لبنان يمر في أزمة خطيرة. خطيرة جداً. يصل الأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى. رجل النيات الطيّبة محل ثقة بالتأكيد. مشكلته ليست هنا. مشكلته أنه يمثّل مؤسسة فاقدة لأي فاعلية. مؤسسة متهاوية. لا تتوقع الشعوب العربية منها سوى القدرة على الاجتماع وإصدار البيانات. تقوم الجامعة، من وقت لآخر، بمهمات تذكيرية. تتخذ مواقف ذات صلة بخطاب متصل، بما شكل، ذات مرّة، غطاءً شرعياً للأنظمة، إلا أنها مواقف ذات طابع تعليقي على الأحداث. مضى زمن طويل لم تصنع الجامعة حدثاً ولم تؤثر دولة من دولها في حدث يهم العرب مجتمعين.
يوم وصول عمرو موسى إلى بيروت كانت إيران تستضيف رجب طيب أردوغان. يبحث المسؤول التركي في طهران قضايا تهم العرب جميعاً: العراق، فلسطين، لبنان. يبحث أيضاً أموراً ثنائية بين الدولتين. المشهد، من وجهة نظر عربية، محزن بعض الشيء. وهو محزن لأنه يوفّر لنا مقياساً نفهم بواسطته ما يمكن دولتين إقليميتين مركزيتين أن تفعلاه. دولتان لكل منهما سياستها الوطنية وحكومتها ذات التمثيل ومصالحها المحددة. دولتان يحسب لهما حساب.
لا يمكننا، ونحن نتابع أنباء زيارة موسى إلى بيروت ولقاءات أردوغان في إيران، إلا أن نتذكر البؤس العربي الذي تتحمّل مسؤوليته الأساسية الدولتان «المركزيتان» العربيتان: مصر والمملكة العربية السعودية.
لهاتين الدولتين «مواقف» حيال القضايا الساخنة في المنطقة. لكنهما لا تملكان سياسة أو استراتيجية، وإن كانتا تمتلكان شيئاً من هذا النوع فإنهما، بالتأكيد، لا تتصرّفان كمن يمتلك أدوات تنفيذ لهذه الوجهة أو تلك.
تتمتع الدولتان بثقل معنوي وديني وديموغرافي. موقعهما الاستراتيجي مميّز. لواحدة منهما ثروة نفطية يمكنها أن تكون سلاحاً (وهي كذلك لكن في اتجاه خاطئ). لا تستفيد القاهرة أو الرياض من تعثّر السياسة الأميركية في المنطقة، ولا من محاولة روسيا العودة إلى لعب دور، ولا من التباينات على ضفتي الأطلسي، ولا من العمق الإسلامي... الخلافات السابقة بين الدولتين حكمت السياسة العربية، فلما انتهت، بانتصار سعودي ساهم فيه أنور السادات، اختفى الوزنان معاً أو كادا.
طرح «العرب» مبادرة تسوية و«نسوا» آلية المتابعة. قرروا الذهاب إلى مجلس الأمن بعد الإعلان عن «موت المبادرات السلمية السابقة» ثم سُحب الموضوع من التداول. اعتمدوا سياسات لا توحي بوجود بدائل، ولما لمّحوا إلى خيارات أخرى فعلوا ذلك من دون رغبة في إقناع أحد بجديتهم.
تقرر إسرائيل الانسحاب من غزة من طرف واحد فيصبح «المعتدلون العرب» مسؤولين عن دور تكاملي. تقرّر حكومة إيهود أولمرت سحب الانسحاب الانفرادي فنشهد محاولة للتكيّف. تطفو «خريطة الطريق» فنؤيّدها، تغرق فنتناساها. يحاصر الشعب الفلسطيني ويجوّع فنشترك في الحصار. ترتفع الدعوة إلى كسر الحصار ويتقرر ذلك، ولكن شيئاً لا يحصل.
يعجز «النظام العربي الرسمي» عن منع الحرب الأميركية على العراق. لا بل يشارك فيها بشكل أو بآخر، وهو مدرك تماماً لنتائجها على صعيد التوازنات السياسية الداخلية المقدّر الوصول إليها. ولكن ما إن يقع العدوان حتى تتصاعد الشكوى من نتائجه لا منه. وترفض الشكوى أن تتحوّل إلى سياسة. فالمعتدلون العرب هم ضد شيعة العراق لأنهم شيعة، ولو كانوا «معتدلين»، وهم ضد السنة لأنهم مقاومة. وهم، خاصة، ضد تمدّد النفوذ الإيراني وضد «الهلال الشيعي». يعبّرون عن مواقفهم المتضاربة هذه ويبذلون مساعي لتوحيد الصف ورأب الصدع وعقد اجتماعات المصالحة. الأحدث بين هذه الاجتماعات أصدر «وثيقة مكة» التي عاشت للحظات فقط. همُّ «المعتدلين العرب» أن يندرج العراق في تصوّرهم له فينتقل الشيعة إلى عداء الاحتلال ما يضطره إلى معاقبتهم وينتقل السنة إلى تقبّل الاحتلال فيتلاقون مع إخوتهم في مصر والسعودية والأردن. وبما أن المشروع هذا يواجه عقبات، وبما أن القرار أميركي بالدرجة الأولى، يصبح الحل هو الدعوة إلى بقاء القوات الأميركية، علماً بأن الأميركيين افتتحوا البحث الجدي عن مخارج أخرى. وإذ خطر في بال أحد في واشنطن فتح حوار مع سوريا وإيران، فإن الاعتراض يأتي من عواصم في المنطقة ومن حكومات تقول إحداها في بيان وزاري غريب «إن واجب الاحتلال منع التدخل الخارجي في شؤون العراق»!
سياسة «المعتدلين العرب» حيال لبنان موسمية. مرّ موسم كانت فيه وسطيّة ذات بعد انتقادي للأكثرية النيابية والحكومية. ثم حل موسم الحياد الذي لم يثمر. وها نحن في موسم الانحياز الراغب في تطويق آثار النجاح في صدّ العدوان الإسرائيلي. تترجم المرحلة الأخيرة نفسها بإقحام الحكومة الحالية في «حلف المعتدلين» وبإدراج الأزمة في المعركة الإقليمية كما تصوغها الولايات المتحدة: الاعتدال ضد التطرّف.
تتجاهل هذه السياسة موازين القوى اللبنانية وتسقط عليها قراءة «عراقية» تشطب البعد المسيحي فيها. وهي، إذ تفعل ذلك، فإنها تهدّد بدفع لبنان نحو مصير عراقي في انتظار البكاء على هذا المصير لاحقاً.
من العراق إلى فلسطين إلى لبنان، لا يملك المحور العربي المركزي سياسة وطنية وقومية جديرة بهذا الاسم. المناشدات كثيرة، ومعها فورات الغضب والإعلام الموتور والمطالب ذات الطابع النقابي في وجه السيد الأميركي. العجز مطلق عن مبادرة تستحضر إلى طاولة التفاوض الحد الأدنى من مطالب المنطقة وأهلها.