غسان سعودفي ساحة الشهداء اليوم، شبان يخرجون من صورتهم النمطية، وتصرفهم الجماعي الذي اعتادوا سلوكه عن وعي وعن غير وعي. وتُسجَّل، في هذا السياق، ملاحظات كثيرة أطاحت ما سبق لمنظّمي الاعتصام أن رسموه، وللأفكار المسبقة التي سبق للمعتصمين أن حملوها بعضهم عن بعض، قبل أن يجتمعوا ويبدأوا باكتشاف الوجه الآخر المستتر خلف قناع المنطقة والطائفة والحزب

بين 2005 و2006 ما الذي تغيّر؟ مشاهدات واختبارات

الجنوب بعيد جداً، الجنوب للشيعة، والشيعة لا يهتمون بشيء غير مقاومة اسرائيل، وهم مجموعات «سوداوية» تعشق الحزن، هم غير متعلّمين، يريدون إقامة جمهورية اسلامية في لبنان، ويبغون فرض الشريعة الاسلامية. أمّا من الجهة الأخرى، فالأشرفية والمتن وكسروان وجبيل تقع كلها خلف عكار، في مكان بعيد جداً، هم مسيحيون، لا يتكلمون إلا الفرنسية، معظمهم عملاء لإسرائيل، غالبيتهم يقضون وقتهم سكارى، نساؤهم غير محتشمات، ويريدون تحويل لبنان إلى نادٍ ليليّ.
هكذا كان البعض من جِهتَي ساحة الشهداء، الشرقية والغربية، ينظر بعضهم إلى بعض. فهل مثّل المخيم فعلاً مساحة يستفيد منها شباب التيار الوطني الحر وحزب الله لترسيخ معرفة كل منهما للآخر ، أمّ أنّ هذا المخيم هو مجرّد مساحة أخرى من مساحات البلاد المغلقة؟
اختلط الحابل بالنابل
في البداية، قسّم المنظّمون زوايا الساحات بحسب تنوّعهم السياسي. وقالوا إن لكل حزب، مساحة خاصة به يُفضل ألا يتخطاها لعدم التسبب بفوضى يصعب ضبطها. لكن ما إن أطل الحشد الكبير للراغبين في المشاركة الدائمة بالاعتصام، حتى سقطت هذه الحدود. وخصوصاً في ساحة الشهداء. هنا خيمتان للتيار الوطني الحر تفصل بينهما خيم للحزب الديموقراطي اللبناني، بقربها واحدة للمردة وأخرى للحزب السوري القومي الاجتماعي ولحركة أمل. وهكذا نجد في أحد التجمّعات توزيعاً للخيم على الشكل الآتي: أمل، تيار، أمل، مردة، تيار، حزب الله، قومي، تيار، ناصري، أمل.
ووسط هذا الاختلاط، يقضي شبان التيار وحزب الله وقتهم هذه الأيام في التعارف، وتبادل تجارب مختلفة، وهم الذين تعاونوا خلال السنة الماضية في الانتخابات الطالبية والنقابية وفي احتضان النازحين. وهكذا نجد عونيين في خيم حزب الله والعكس بالعكس. ويتّضح للبعض أن ثمة مسيحيين جنوبيين كثراً، وأن مقاومة إسرائيل لا تشغل الشيعة عن الثقافة والدراسة، وأنّ معظم مقاومي حزب الله يحملون شهادات جامعية أو في طور الحصول عليها. كما يبدو من خلال حلقات الرقص والدبكة وجمعات الزجل والضحك، أن حب الحياة عند الشيعة لا يقلّ عن مثيله لدى الطوائف الأخرى، وأنّ «السوداوية» الشيعية مجرد عنوان يراد به باطل، كما تؤكّد مجموعة من أبناء الغازية كانت تجتمع مع طلاب عونيين من جامعة الروح القدس في الكسليك.
لا يطاول الاختلاط أبناء الطوائف المختلفة وحسب. فقبل سنوات قليلة، كان الكلام عن تحالف بين حركة أمل وحزب الله شبه مستحيل. اليوم بات الكلام عن انفصال هذين الحزبين مدعاة سخرية. ويبدو من الساحة، من الفرحة المشتركة بين عونيي عين الرمانة والحازمية والحدث وعين إبل ورميش ومرجعيون وجزين من جهة، وأنصار حزب الله وحركة أمل من جهة ثانية، أن التراجع عن التفاهم السياسي والتحالف الشعبي شبه مستحيل.
فنجد اليوم، جمهوراً وافداً من الضاحية الجنوبية، كثيرون ضمنه يرفعون صور العماد ميشال عون ويلتحفون باللون البرتقالي. الجمهور المتحرك يؤيد بمعظمه حزب الله. الحزب المتهم بالشمولية وعدم تقبله للآخر، وإصراره على فرض آرائه.
يصل الحشد إلى ساحة الشهداء. يردد مع العونيين بطلاقة أغنيتي «عونك جايي من الله» و«نزل التيار ع الأرض». ويرفع هذا الجمهور المدان مسبقاً بالتشدد المذهبي شعارات كتبت بالأيادي تقول «يا عذراء إحمي نصر الله، ويا زهراء إحمي عون». ويبدو من خلال الاستماع إلى الناس، ورؤيتهم يهتفون للعماد عون، أنه بات شريكاً للسيد حسن نصر الله في محبة الجمهور وتقديره. وفي المقابل، بات مشهد آخر مألوفاً منذ العدوان الاسرائيلي: صورة نصر الله في المناطق المسيحية، يرفعها بعض العونيين الذين لا يترددون في الدفاع عن السيد بحجج مختلفة، والقول إنه يمثل عماداً آخر للتحرير.
ما الفرق؟
اللافت وسط جمع اليوم، طغيان اللون البرتقالي على الساحتين، تماماً كما سبق للأزرق أن طغى على معتصمي شباط 2005. يومها كان رفع أي علم غير العلم اللبناني أو راية شباب المستقبل، يثير اعتراض القياديين الحريريين. ويذكر أحد القواتيين، في هذا السياق، رفض شباب المستقبل رفع صور الشيخ بشير في ساحة الشهداء أو في المخيم، لعدم إثارة حساسيات طائفية ومناطقية.
وحُدِّد وقتها يوم لاستذكار كل القادة الشهداء، جمعت في نهايته الصور ورميت في مستوعبات النفايات بالقرب من ساحة الشهداء، باستثناء صور الرئيس الحريري وبعض القادة الآخرين. ويشير أحد القواتيين الذين شاركوا في اعتصامات السنة الماضية، إلى تدخل أحد القياديّين لطلب عدم ترداد عبارة «براءة براءة سمير جعجع براءة» ياستمرار، لأن ثمة شعارات موحّدة والوقت ليس مناسباً، خصوصاً أن مطلب إطلاق المعتقلين السياسيين يرد ضمن مطالب المعارضة.
والواقع أنّ مخيم 2005 لم تفارق البرودة والحذر خيمه. فكانت خيمة للحزب التقدمي الاشتراكي، تجاورها خيمة للقوات اللبنانية يوجد بينها وبين خيمة تيار المستقبل، واحدة للتيار الوطني الحر. وأمام كل خيمة نجد شابين متقدمين في السن، مدججين بالأجهزة، يقومان بالحراسة بحسب قولهما. أما شبان الخيم فكانوا حذرين في التعاطي مع بعضهم بعضاً. هنا الاشتراكي يحاول التعرف إلى العوني، رافضاً الكلام مع القــــواتــــي، مشــــيراً لشــــبان المســــتقبل إلى عدة أمور يُفترض بالقواتيين التوقف عنها إذا أرادوا استمرار الاعتصام.
القواتيون بدورهم كانوا منقسمين إلى ثلاث مجموعات لا يكلم بعضهم بعضاً، تماماً كما هي الحال بين طلاب الوطنيين الأحرار والنمور. يمرُّ الأسبوع الأول، تلتقي القيادات الطالبية، يشير البعض إلى صعوبة إيجاد من يبقى مساء في الخيم. يناقش الشبان المجتمعون السبل الممكنة لبناء علاقة مميزة بين جمهور الأحزاب المتنوعة. ثمّ ينتهي المخيم من دون أن يتعــــرف المخــــيمون إلى أكثر من ســــكان الخــــيم المجـــاورة لهــم مـــباشـــرة.
واستبدلت لاحقاً الخيم الخمس والعشرون تقريباً بخيمة واحدة لجمع كل المنظمات الطالبية المعارضة تحت سقفها الإترنيتي. لكن الخيمة التي أحيطت بصور الرئيس الشهيد رفيق الحريري لم تجد جمهوراً يؤمّها إلا مرافقي السياسيين الذين تناوبوا على الخطابة فيها أمام العشرات.


في الساحتين
يوجز مسؤول الطلاب السابق في التيار الوطني الحر، جورج سرّوع، الفارق بين مخيّم اليوم ونظيره عام 2005. فبعد تجربته في الاثنين، يقول إن منظمي الاعتصام في ساحة السنة الماضية كانوا يشددون على إبراز الشعارات الدينية، والقول إننا «إسلام ومسيحية». أما اليوم فاستُعيض عن «بروباغندا الصليب والهلال» بلقاءات أكثر عملية بين مسلمي الساحة ومسيحييها، تستمر حتى ساعات الفجر الأولى.
وفي ساحة شباط، كان الاشتراكيون وقياديو المستقبل يسيطرون على المذياع، فيما يستطيع اليوم كل من يريد الكلام أن يفعل ذلك من دون تضييق من أحد. ويشير سروع إلى التنظيم اللافت ووجود الكثير من عناصر الانضباط الذين يؤمنون الهدوء في المخيم دون نصب عدد من الحراس على كل خيمة. ويؤكد سروع أن المخيم السابق كان يشهد شبه فراغ قبل الظهر، فيما النشاط متواصل في المخيم الحالي.
أما من ناحية اختلاط التيار بشباب القوى الأخرى، فيقول سروع إن العونيين، في الساحتين، نجحوا في التفاعل مع شباب الأحزاب الأخرى. لكن الفرق أن الاختلاط في السنة الماضية كان عاطفياً بينما ينطلق اليوم من أسس سياسية.



عوني - قومي
يبرز في ساحة الشهداء، وجود خيم للحزب السوري القومي الاجتماعي بموازاة خيم التيار الوطني الحر. الأمر الذي تُركّز بعض الوسائل الإعلامية على إظهاره لإثارة رد فعل شعبي سلبي عند عونيين كثر، بشيريّي الجذور أو شمعونيين. إلا أن العلاقة بين العوني والقومي ما زالت في طور التشكّل بحسب الفريقين. يقول فراس فرنسيس وفراس الشوفي، المسؤولان عن خيم القومي، إنّ محازبيهما يندمجون مع حزب الله والمردة ومعظم القوى الأخرى باستثناء التيار. وبحسبهما فإن التيار يعاني إرباكاً في مناطقه ولدى جمهوره. ويعوّل الشابان على دور للمردة في التقريب بينهم وبين التيار. ويشيران إلى بحثهما عن شيء مشترك، خيمة أو حوار أو أي مساحة مشتركة. ويؤكد القوميون أنهم حزب حواري يتقاطع مع التيار في نقاط عدة يتضمنها مشروعه.
أما جينو عون، المسؤول عن خــــيمة طلاب التيار في جامعة الكسليك، فــيؤكد تعـــارض التيار مع القوميين في أمور كثــيرة. لــكن مطلــب إســقاط الحكومة يجمعهم.



كسر المعازل الطائفيّة
جوّ الفرح موجود عند حزب الله بأشكال منضبطة ضمن الالتزام الديني، يقول الباحث الاجتماعي حسين رحال، المسؤول الإعلامي في حزب الله. ويضيف: «إن شباب الحزب اعتادوا أشكالاًً مختلفة للتعبير عن الرأي والمشاعر. لكنهم يحترمون عادات الأفرقاء الآخرين ولا يحاولون فرض رأيهم على غيرهم. وهذا دليل انفتاح عند الحزب القادر على استيعاب الاختلاف عند الآخرين».
ويدعو رحّال إلى انتظار مناسبة فرح، كاحتفال بعيد أو عرس، لرؤية تأثّر شبان الحزب بمشاركتهم في الاعتصام أو عدمها. ويكشف، من ناحية اجتماعية، أن الظروف الاجتماعية والسياسية يختلط بعضها ببعض. والتفاهم السياسي سرعان ما يؤدي إلى قبول الاختلاف الاجتماعي، وهو الأمر الحاصل اليوم، مشيراً إلى أن القوى اليسارية في السابق كانت تثير تحدياً، وتطرح مبادئ تغييرية بطريقة استفزازية، ما يؤدي إلى تشنج الطرف المقابل، حتى ولو كان متفقاً معها في أمور كثيرة.
وينهي رحّال حديثه بالتأكيد أن لحزب الله مروحة واسعة من المؤيدين: البعض ملتزم بعقيدة الحزب الدينية، والبعض مؤيد للحزب لكن غير ملتزم بالناحية الفقهية. ويصعب التمييز بين هاتين المجموعتين. وبهذا، يقدم حزب الله نموذجاً اجتماعياً لحركة إسلامية منفتحة وقادرة على فهم الآخر وتقبله والتكيف معه. وما يحصل في ساحة الشهداء يلقي الضوء على تطورات السيكولوجيا الاجتماعية عند الحزب.
أما الباحث الاجتماعي بسام الهاشم، مسؤول التثقيف السياسي في التيار الوطني الحر، فيستعرض الأحداث التاريخية التي أوصلت اللبنانيين إلى «معازل طائفية» بعد أن كان اللبنانيون منفتحين بعضهم على بعض.
وبحسب الهاشم، فإن اللقاء في الـ2005 ضم مجموعات متقابلة، لا اندماج في ما بينها. واتّسم اللقاء بالحذر. وباستثناء خيمة التيار لم يكن ثمة «فسحة لقاء» للبنانيين متعدّدي الطوائف. ويلفت الهاشم إلى حفظ مناصري التيار وحزب الله لأغاني حزبيهما، وتحول الرمزين، عون ونصر الله، إلى رمز واحد تقريباً.