جوزف سماحة
«خذوا أسرارهم من كبارهم». تصلح العبارة التالية لأحد أركان السلطة لأن تقدّم شرحاً لبرنامج الأكثرية النيابية والحكومية، يقول: «إننا مؤمنون بنهوض لبنان الديموقراطي المتنوّر في وجه قوى الظلام والسواد، لبنان العربي المتعاون مع محور الاعتدال العربي في وجه محور التفريس والديكتاتوريات».
العبارة لا تخلو من كثافة. فيها، أولاً، فكرة الخير والشر. وفيها صراع الديموقراطية والإرهاب. وفيها نزاع الاعتدال مع الديكتاتورية. وفيها وضع العروبة في مواجهة الفرس، لا المشروع الأميركي ـــ الإسرائيلي. فيها النزعة الاستئصالية التي تستهدف «قوى الظلام والسواد». وفيها القفز عن أن «محور الاعتدال العربي» مؤلف، حصراً، من ديكتاتوريات!
العبارة كثيفة وتقدم تشخيصاً للأزمة اللبنانية الراهنة في سياق الإطار الإقليمي الذي يحيط بها ويدرجها في المنطقة ويصلها بجانب من السياسات الدولية. وإذا كانت حقوق النشر محفوظة، فالواجب ذكره هو أن العبارة ليست لقائلها لأنها مأخوذة من قاموس الذين نظّروا للحملة الكولونيالية الجديدة على المنطقة في لحظة التقائها مع الاندفاعة التوسّعية الصهيونية. لم يبق واحد من أركان الإدارة في واشنطن إلا قال جملة من هذا النوع، ولم يبق واحد من «المحافظين الجدد» إلا كانت له تنويعة على هذه الأطروحة. ولا يغيّر في الأمر شيئاً أن هذه «الحكمة» نشرت في وقت كان فيه جون بولتون يرحل معلناً عمق الأزمة التي أصابت المشروع الأميركي الإمبراطوري، وهي أزمة تضجّ أصداؤها في أرجاء المتروبول، ولو أنها لم تصل حتى الآن تماماً إلى «المستعمرات» وسياسييها ومنظّريها.
التشديد على أن «عبارة تلخص أزمة» مصدره أنها، أي العبارة، تكشف التناقض العميق بين المواجهة الإقليمية التي حاولت وتحاول الإدارة الأميركية فرضها على المنطقة، ومنها لبنان، وبين تقاليد العمل السياسي اللبنانية.
تقوم التقاليد اللبنانية على التسوية والتوافق. وتدل التجربة على أنه في كل مرة حاول طرف «الشرود» سبّب توتراً داخلياً. لم يؤدّ خروج القوات السورية من لبنان إلى القضاء على هذا التقليد. لقد استمر، ولو هشّاً وقلقاً. إلا أن العدوان الإسرائيلي حرّر قوى داخلية وشجّعها على كسر التعايش الداخلي.
ثمة سلطة لبنانية نابذة اليوم. وثمة معارضة طالبة للمشاركة. تقول الأولى إنها لا تمانع في الخراب إذا كان الشلل أوالتعطيل هو البديل. تقول الثانية إن التقدم معاً، ولو ببطء، خير من الانقسام. والواضح أن إتاحة الفرصة أمام «تبادل النقض» أقرب إلى روح «اتفاق الطائف» من وهم فئة ذات قاعدة اجتماعية واسعة، لكن غير راجحة، بأنها تستطيع الانفراد. تصنيف هذا الانقسام بأنه بين «التنوّر» و«الظلام» ليس اختزالياً فحسب، إنه، في الحقيقة، إقصائيّ تماماً.
لا يستقيم ما يقوله رئيس الحكومة فؤاد السنيورة عن «وجوب الحوار» (الأجدر به أن يركز على «وجوب التسوية») مع ما يقوله حلفاؤه عن «الثنائية» المشار إليها بين الأبيض والأسود. إلا أننا ميّالون إلى الاعتقاد بأن ما يقولونه هو السياسة الفعلية الجاري تنفيذها، ولو تم تزويق ذلك بخطاب «مسؤول».
وما يؤكد هذا الاعتقاد هو الإعلان عن الانتماء إلى «محور الاعتدال» الذي وضعت له الولايات المتحدة هدفاً مركزياً هو خوض المواجهة الجذرية مع «محور التطرّف»، ولو أدّى ذلك إلى خراب في العراق وإلى وضع لبنان وفلسطين على مشارف أزمات كبرى.
يبقى أن نورد ملاحظتين:
الأولى هي أن «الاعتدال اللبناني» لم ينتج خطابه المتماسك حتى الآن. فهو يعتمد، كما هو واضح، على تجييش مذهبي لا يتوانى عن اللجوء إلى راديكالية أيديولوجية. ويتولّى أركان في مؤسسة دينية أمر العزف على هذا الوتر الجذري عبر تصوير النزاع السياسي مع «حزب الله» بأنه صراع طائفي مع «مقاومة» تريد حرمانهم شن الهجوم النهائي على «الكيان الصهيوني». نعم، هناك خطاب هجين في قلب التيار المركزي الداعم للسلطة. خطاب يخلط بين إدانة الذين قاتلوا إسرائيل بنجاح وبهورات قتالية ليست حريصة على مزارع شبعا فقط، بل على كامل التراب الفلسطيني. وتزداد هذه الهجانة عندما تتحوّل إلى ممارسة. فمما لا شك فيه أن مزاج الجناح المتنفّذ في السلطة هو أقرب إلى مزاج النظام الرسمي العربي و«محور الاعتدال» (بمن في ذلك محمود عباس)، في حين أن الرافد الأيديولوجي لهذه الممارسة يستعير، أو شرع يستعير، بعض أطروحات أبو مصعب الزرقاوي!
الملاحظة الثانية هي أن لبنانيين يفترضون تصوّراً أميركياً للمواجهة في المنطقة ويحاولون تطبيقه على لبنان، فيما أصحابه الأصليون يمرّون، على الصعيد الإقليمي، في فترة حرجة، وربما كانوا يستعدّون لتنظيم صفوفهم والانكفاء تمهيداً لهجمة جديدة لاحقة. لقد تعثّرت السياسة المبنيّة على صراع الخير والشر حيث مورست (في العراق وبنسبة أقل في أفغانستان). وتم التراجع عن ثنائية الديموقراطية ـــ الديكتاتورية إلى ثنائية الاعتدال ـــ الإرهاب. وليس مستبعداً أن تؤدي واقعية مستعادة إلى تغليب نهج جديد يعيد تعريف الأهداف والوسائل ويعتمد قدراً أكبر من التواضع.
بكلام آخر، لقد وصل بعض اللبنانيين متأخرين إلى الحفلة أو، بالأحرى، وصلوا بعدما كان العرس يتحوّل إلى مأتم. لذا لا أفق أمام المعركة التي يريدون فرضها على اللبنانيين. وبكلام أدقّ، لا أفق لها إلا إذا كان الأسياد يريدون تغطية تراجع ما حيث هم متورّطون بغبار يثيرونه أو يثار لهم في لبنان.