جوزف سماحة
تخرج شيئاً فشيئاً من دائرة النقاش مقولة أن العراق كان محرقة الادّعاءات الأميركية. من تابع شهادة وزير الدفاع الجديد روبرت غيتس يحسم هذا الأمر. لا يجوز الاستماع إلى الرجل، إلا وفي الذاكرة ركام المبالغات السابقة، والأوهام المبالغ فيها. كنا في فردوس موعود، فإذا بنا في جحيم متحقق. لقد روّج البعض للديموقراطية الظافرة والمتقدمة وراء الدبابات ومع البوارج، وصدّق بعض آخر الأكذوبة. حسنو النيّة حزينون، وربما كانوا يبحثون عن صيغة اعتذار. سيئو النيّة أدركوا الفشل مسبقاً، فغادروا السفينة مثل فئران وقد يضحكون في سرّهم: الحريق الذي أضرّ الولايات المتحدة لم يلحق أي ضرر بإسرائيل. على العكس. من لا يصدّق فليراجع إيهود أولمرت قبل أيام. في رأيه أن الحرب على العراق جلبت إلى الشرق الأوسط... الاستقرار.
العراق أحرق الادّعاءات الأميركية، لكنه احترق في غضون ذلك. باتت الأولوية لضبط النيران، علماً بأن هناك من يحاول، جاهداً، تحريك الجمر اللبناني. تعثّر المشروع الإمبراطوري ارتدّ على المتروبول، ولكن ذلك لم يؤدّ إلى تطور موقف نقدي راديكالي يراجع السياسة الخارجية الأميركية بثوابتها المعروفة (والراسخة)، ويراجع مكانة الولايات المتحدة منارةً مفترضة بين الأمم، أو حتى يراجع الحرب نفسها. إن ما حصل هو تبلور موقف رافض للفشل وللكلفة ومحمل المسؤولية لطريقة في الأداء. إن هذا هو، بالضبط، ما عبّر عنه الأميركيون في الانتخابات النصفية.
لم يعد ممكناً لإدارة الرئيس جورج بوش أن تستمر سادرة في تجاهلها. بات التأقلم مع الواقع اضطرارياً. وسواء تكلم الرئيس عن تكييف للتكتيكات، وغيره عن انعطافة استراتيجية محدودة، فلقد كان واضحاً أن شيئاً ما سيتغيّر. المداخل إلى التغيير كثيرة بينها تقرير بيكر ــ هاملتون الذي سبقته حملة إعلامية ــ إعلانية جديرة بنوع خاص من الإنتاج الهوليوودي.
يمكن النظر إلى ابتعاد دونالد رامسفيلد والمجيء بروبرت غيتس كعرض أول استباقي، في إشارة إلى النزول من علياء الإنكار وبدء البحث في إطفاء الحريق والخروج من مسرح الجريمة بأقل الأضرار. إنه إعلان عن أن قوة أميركا ودفاعها عن مصالحها الاستراتيجية لم يعودا كامنين في تثبيت «الانتصار العراقي» والانطلاق منه إلى المنطقة، بل في إعادة تنظيم الاحتلال في العراق وإعادة صياغة العلاقة مع المحيط. لقد باتت قوة الولايات المتحدة كامنة في التحرّر من هذا النمط من الاحتلال، وفي انتهاج سياسة واقعية.
... إلا أنها واقعية تنتمي إلى الحزب الجمهوري وإلى الأجنحة المتشدّدة فيه. لقد كان غيتس مؤيداً للحرب على العراق، وسبق له، أيام رونالد ريغان، أن تورط جزئياً في قضية إيران ــ كونترا. ودعا منتصف التسعينيات إلى قصف كوريا الشمالية (قال بالأمس إنه يتراجع عن هذا الموقف).
إذا كان غيتس من فريق بوش الأب، فإنه سيجد نفسه مضطراً، مع بوش الثاني، إلى لعب دور معقّد: دور الترشيد الذي لا يستقيم إلا بقدر من التسامح مع نزوات الابن وجموحه ورفضه إدراك الواقع.
ما قاله غيتس في جلسة الاستماع يعيد الاتصال بما هو ملموس. يعترف مثلاً بأن الولايات المتحدة «لا تربح الحرب في العراق» (استدرك لاحقاً بأنها «لا تخسر أيضاً»)، ويعترف بأن أسامة بن لادن هو العدو الذي هاجم في 11 أيلول، لا صدام حسين. ليس غيتس من دعاة الانسحاب السريع من العراق، بل من أنصار وجود مديد بعد إعادة النظر في عديد القوات الأميركية ومهماتها. صحيح أنه كان، حتى ما قبل أيام، عضواً في لجنة بيكر ــ هاملتون، ولكنه، في موقعه الجديد، يرفض اعتبار توصياتها قرارات ويريد أن يوسّع لنفسه ولرئيسه هامش المناورة. ومع أنه يدعو إلى شكل من أشكال الاتصال بإيران وسوريا، فإنه لا يستبعد بالمطلق الخيار العسكري ضد الأولى، ويحاول أن يقلّل من قدرة الثانية على الأذى.
يهمّنا من تقدير غيتس للمستقبل القريب للمنطقة خوفه من الفوضى. يرى أن استمرار بلاده في سياستها العراقية الحالية غير ممكن، ولكنه، إذ يدعو إلى بديل، فإنه يعلن أن ما يجب تجنّبه هو تحوّل العراق إلى منصة لتعميم الانهيار الشامل في محيطه واستدراج انفجارات إقليمية يصعب ضبطها. الوداع، إذاً، للنظرية الخرقاء حول تعميم الديموقراطية انطلاقاً من احتلال بغداد، فـ«الباراديغم» الجديد هو منع بغداد من تفجير كل ما حولها. هذا اعتراف استثنائي بفشل نهج سابق. وهذا دليل حنين إلى سياسة ترى إلى قدر من الاستقرار بصفته ضامناً للمصالح الاستراتيجية الأميركية ولحلفائها وعلى رأسهم، طبعاً، إسرائيل.
إن هذا التشذيب للسياسة الأميركية يمكنه أن يخفّف الطاقة التدميرية التي تختزنها سياسة بوش كما صاغها حلف «المحافظين الجدد» و«المحافظين القوميين»، وكما تمت تجربتها في العراق. ولكن السؤال يبقى مفتوحاً عما إذا كان بوش سيتراجع فعلاً، وعما إذا كانت كوندوليزا رايس ستقبل أن تراجع حساباتها في ما يخص محاولتها لاستنساخ التجربة العراقية في لبنان حيث رأت «آلام المخاض للشرق الأوسط الجديد».
ليس واضحاً إذا كان غيتس سيكون مؤثراً. الواضح أنه مؤشر. لذا يفترض، في ما يخص لبنان، دعوة السلطة إلى مراجعة حساباتها باتجاه التواضع، ودعوة المعارضة إلى عدم الرهان على استدارة جذرية في السياسة الأميركية.