نقولا ناصيف
هل دخل الجيش هذه المرة دائرة الامتحان والاختبار القاسي؟
بدا بيان قيادة الجيش أمس كأنه يحمل مغزيين:
أولهما أن يُظهِر للرأي العام اللبناني صدقية دور المؤسسة العسكرية وشفافية موقعها وعلاقتها بالأفرقاء جميعاً فأكسبتها ثقتهم بها، عبر قول القيادة إنها لم تتلقّ أوامر من رئيس الحكومة فؤاد السنيورة بمصادرة أسلحة «حزب الله» حيث تعثر عليها، وأنها تتحمّل مسؤولية تأكيد هذا الموقف ببيان علني، كانت القيادة تعرف أيضاً أنه سيكون طبقاً ساخناً لتفاعل السجال السياسي على نحو يُكسِب الغالببة جولة صغيرة في الصراع المفتوح، ويشكك في جدية ما كشفه الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله مساء الخميس.
وثانيهما أن تُقدّم القيادة مرافعة مقتضبة عن دور الجيش حيال الفريقين المتناحرين، أي حكومة السنيورة والغالبية الحاكمة التي تقف وراءها من جهة والمعارضة من جهة أخرى، فكان أن وازنت بين التزام دعم المقاومة تنفيذاً للبيانات الوزارية للحكومات المتعاقبة وصولاً إلى الحكومة الحالية التي التزمت بدورها هذا الدعم، وبين نفي القيادة تلقّي أوامر من السنيورة. على أن الأمر الوحيد الذي تلقاه الجيش من السلطة السياسية التي يخضع لها دستورياً، وهي مجلس الوزراء لا رئيس الحكومة، هو منع تهريب السلاح من سوريا إلى داخل لبنان تنفيذاً للقرار 1701.
لكن ثمة ما انطوى عليه بيان قيادة الجيش، ويكاد يضاهي التبريرين السابقين أهميةً، هو أنه طلب من «جميع المعنيين» تجاوز ما اعتبره التباساً حيال مصادرة سلاح شاحنة لحزب الله، مُبرِزاً أن القيادة وجدت نفسها ملزمة إصدار البيان.
إذاً يقرع الجيش، للمرة الأولى منذ 14 آذار 2005، ناقوس الخطر حيال مَن يريد أن يضعه في امتحان الخيار وامتحان الثقة. بل عنى البيان الذي أصدرته القيادة أنها لا تريد أن تكون بدورها، على غرار ما تسعى المعارضة إلى وضع قوى الأمن الداخلي فيه، في دائرة الشبهة والاختلاف على دورها.
والواقع أن اتصالات عدة كانت قد مهّدت لصدور البيان قبل ظهر أمس، وبدأت منذ ليل الخميس، وعلى أثر مخاطبة نصر الله جموع المعتصمين، عندما خابر رئيس الحكومة العماد ميشال سليمان الذي تلقى بدوره مكالمة هاتفية من مسؤولين في حزب الله، وسأله محاوراه عن موقف الجيش مما ورد على لسان الأمين العام لحزب الله: السنيورة أكد أنه سينفي إصداره أوامر إلى العماد سليمان بمصادرة سلاح المقاومة، ومسؤولو الحزب أكدوا يقينهم من حصول هذا الأمر. وسرعان ما تلقّى الحزب بيان قيادة الجيش بامتعاض حمله بعد مشاورات طويلة على إصدار ردّ تفادى الإسهاب في سرد وقائع تفادياً لخلاف مع الجيش. بذلك كمنت قطبة مخفية ما في علاقة الجيش بكل من السنيورة وحزب الله هي ما حدث في كفرسلوان على طريق ترشيش ــــــ زحلة إبّان حرب 12 تموز عندما صودرت شاحنة أسلحة كانت في طريقها لمدّ مقاومين في الجنوب بذخائر وصواريخ. ومع أن الجيش تفادى بدوره التعليق على ما أكده بيان حزب الله مساء، فإن الاتصالات الوثيقة الصلة بين الطرفين، والدورية بل اليومية، انقطعت تماماً طوال يوم أمس.
ولعلّ المفارقة أنها المرة الأولى التي يتساجل فيها الجيش والحزب في أمر يرتبط بهما مباشرة. وكان قد قيل في علاقتهما الوثيقة إبان الحقبة السورية إنهما السلطة الظل للسلطة السياسية التي لا تدخل في استراتجيا الأمن القومي اللبناني فحسب، بل كذلك في حسابات الأمن القومي السوري. وتالياً لم يكن سرّاً أن السلطة السياسية آنذاك والرئاسات والمؤسسات كانت عاجزة عن التأثير في خيارات الجيش وحزب الله وموقعهما المتقدّم.
في خلاصة المبررات التي حملت قيادة الجيش على إصدار بيانها، أنها أرادت أن تخرج نفسها من المواجهة الحادة بين الطرفين.
فهل انتهى الأمر عند هذا الحد؟
قد يبدو كذلك. إلا أن ثمة ما ـ ومَن ـ يوجّه الانتباه إلى أن الجيش والحزب لا يزالان خارج دائرة الامتحان القاسي تبعاً لأسباب، منها:
ـــــــ أن العماد سليمان مذ فاتحته حكومة السنيورة بموقف الجيش من الاعتصام والتظاهر المفتوح للمعارضة، قبل أن يبدأ، حدّد الدور، وهو أن الجيش ليس طرفاً في الصراع السياسي بين الغالبية والمعارضة، كما لم يكن طرفاً بين قوى 14 آذار والسلطة السياسية السابقة (حكومة الرئيس عمر كرامي)، وكان الجيش السوري واستخباراته العسكرية لا يزالان في لبنان بكل وطأة ضغوطهما. وأن الجيش تالياً لن يتعرّض لحرية التظاهر والاعتصام وسيحمي جموعهما، ويحمي في الوقت نفسه المؤسسات الدستورية ويمنع بالقوة الاعتداء عليها. وكما لم يرضِ هذا الموقف حكومة كرامي ودمشق عندما سمح الجيش لقوى 14 آذار بالتظاهر عام 2005، لم ترتح حكومة السنيورة إلى استعادة الجيش هذا الدور الذي أراد به قائده استرجاع تجربتي 1952 و1958 حين جنّب اللواء فؤاد شهاب الجيش التورّط في الصراع السياسي، وترك للسياسيين أن يحسموا في ما بينهم، في الشارع عام 1952 وفي المؤسسات الدستورية عام 1958، هذا الصراع.
ــ بدا الجيش منذ تصاعد المواجهة بين المعارضة والغالبية، وخصوصاً بعد اليوم الأول من الاعتصام المفتوح (الأول من كانون الأول)، كأنه طرف ثالث بين فريقين يراعي توازن النزاع بينهما، ويحاذر الظهور مظهر المنحاز إلى أحدهما، مع أنه يأتمر بأمر السلطة التنفيذية صاحبة صلاحية مخاطبته وتوجيه التعليمات السياسية إليه من خلال وزير الدفاع الذي أضحى اليوم في صفوف الغالبية. وعلى غرار ما فعل السنة الماضية، ترك للسياسيين والشارع أن يحسما الصراع السياسي في ما بينهما: انقلبت قوى 14 آذار على حكم الوصاية السورية وطردت رجاله وأمسكت بالسلطة بعد تسوية التحالف الرباعي مع مَن تعذّر إسقاطهم عبر الشارع. أما الجيش فبقي خارج دائرة المساومة.
ـــــــ أن ثمة أكثر من طرف في الغالبية يرغب ضمناً في بث خلاف بين الجيش وحزب الله لصرف الأنظار عن الشكوك والحملات التي تتعرّض لها قوى الأمن من المعارضة إذ تصفها بأنها «جيش تيار المستقبل» و«جيش السنّة». وبذلك تردّ الغالبية التحية بمثلها للمعارضة. وقد لا يقتصر الأمر على هذا الجانب ــــــ الشكلي بتأثيره ــــــ بل يطاول ما قيل مراراً في أوساط الغالبية عن صلة اتصال لا تزال تجمع قيادة الجيش بسوريا، تارة من خلال «العقيدة الاستراتيجية» (التحالف مع الجيش السوري)، وطوراً من خلال لجان عسكرية لبنانية ــــــ سورية تتولى تنسيق العلاقة بين الجيشين عند الحدود الدولية. وخلافاً للسلطة السياسية التي قطعت كل اتصال بنظام الرئيس بشار الأسد، لا تزال معاهدة الأخوّة والتعاون والتنسيق بين البلدين، النافذة منذ عام 1991، تنظّم العلاقة العسكرية اللبنانية ـــــــ السورية حتى يصار إلى إلغائها. الأمر الذي لم تُقدِم عليه (بعد) الغالبية النيابية. مع معرفة حكومة السنيورة وقوى 14 آذار بتوقّف التعاون العسكري اللبناني ــ السوري على مستويي الدورات الدراسية وتبادل المعلومات بين جهازي الاستخبارات العسكرية في البلدين.
يطرح ذلك تساؤلاً قد تكون إجابته غامضة في الوقت الحاضر: هل أتى دور الجيش لإدخاله في حمى مواجهة الشارع والاحتقان المذهبي، عبر حمله على حسم انتمائه إلى أحد الفريقين المتناحرين؟