جان عزيز
ذات يوم كلّف رئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري أحد أعوانه من الأقرباء، التفاوض مع مسؤولين رسميين في إحدى الدول حول صفقة تجارية كانت إحدى شركاته طرفاً فيها. التزم المعاون الملف وأمضى أشهراً طويلة بين سفر وتباحث، الى أن عاد يوماً الى الحريري نافضاً يديه من القضية، قائلاً: «لا يمكن التعامل معهم، فهم مجرّد كَذَبة». ابتسم الرئيس الراحل وقال: «أنت مخطئ، لا تقل إنهم كاذبون، بل صادقون أحياناً!».
بعد كلمة الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصر الله أمس الأول، وما تضمنته من اتهامات خطيرة، وبعد الردود عليها من رئيس الحكومة فؤاد السنيورة ووزير الشباب والرياضة أحمد فتفت، وخصوصاً بعد بيان قيادة الجيش ورد «حزب الله»، صار السؤال مرتسماً لدى كل لبناني ومعني: ترى من «الصادق أحياناً» في هذا السجال؟
قيادة الجيش اللبناني دخلت على خط المسألة، ببيان يشي بالكثير من الإجابة المطلوبة عن السؤال المطروح. يقول البيان «إنه خلال الحرب الأخيرة ضُبطت على أحد حواجز الجيش كمية من الذخائر وتمت مصادرتها». وهذه الواقعة مقارنة بما كان الجيش اللبناني قد أشار إليه في بيانه الشهير في 12 آذار الماضي، تؤكد أن «أمراً» ما كان قد حصل أو «صدر» أو تغيّر أو تبدّل بين 12 آذار و12 تموز. وإلاّ فما الذي يفسّر أن يسمح الجيش من قبل، بمرور قافلة من الذخائر في منطقة بعيدة عن الجنوب، ميدان عمل سلاح «حزب الله»، وفي فترة لا تشهد حرباً، ومن دون العودة الى السلطة الإجرائية، على أساس أن بيانها الوزاري يرعى تلك الخطوة، فيما يعمد الجيش نفسه الى مصادرة ذخائر متجهة الى الجنوب، في ذروة المعارك، وفي ظل البيان نفسه والسلطة نفسها؟
المقارنة المنطقية بين الحدثين، كما تقول أوساط معارضة، تقود الى الآتي: قيادة الجيش هي نفسها لم تتغيّر بين آذار وتموز. أطراف الحرب الدائرة في الجنوب هم هم، لم يتغيّروا. والسقف القانوني الكافل لأطر تلك المواجهة لم يتبدّل. لم يبق إلاّ متغيّر واحد: الحكومة.
وتتابع الأوساط نفسها أن بيان قيادة الجيش يوضح أكثر، عندما يقول إنه حين طلب «حزب الله» استرجاع الذخائر المصادرة، أبلغت القيادة «في حينه من الجهاز المختص في الجيش، بأن إجراءات إعادتها تخضع لتدابير قانونية تستوجب قراراً سياسياً». وفي هذه الفقرة بالذات، تؤكد الأوساط، يكمن السرّ الذي كشفه نصر الله في كلمته أمس الأول. وتعرب الأوساط نفسها عن اعتقادها أن التكذيب الذي جاء على لسان السنيورة، إنما يستهدف مؤسسة الجيش بالذات، ومحاولة ضرب الإسفين بينها وبين «حزب الله». ذلك أن رئيس الحكومة يراهن على رفض «الحزب» التشكيك في صدقية نصر الله، وبالتالي على دفعه الى كشف المزيد من المعلومات والوقائع، لجهة كيفية معرفته بأوامر رئيس الحكومة، وما يوثّق تلك المعرفة، مما قد يحرج المؤسسة العسكرية، أو بعضها على الأقل، فيسيء الى علاقة التعاون القائمة بينها وبين «الحزب». وخصوصاً أن تفاصيل تلك الوقائع كاملة، معروفة من الجيش و«الحزب» والسنيورة معاً.
غير أن الأوساط نفسها تؤكد وعي المعنيين لهذا الفخ، بدليل بيان «الحزب» المقدّر لظروف قيادة الجيش. كما قول قيادة الجيش نفسها إنها «تهيب بجميع المعنيين تجاوز هذا الالتباس الحاصل»، تجنّباً لأي إحراج إضافي. وترجّح أوساط المعارضة أن يكون الرد في المقابل كشفاً لمزيد من الأسرار المتعلقة بالسنيورة نفسه، وفي هذه المسألة بالذات، وخصوصاً لجهة وقائع الحوارات بينه وبين قيادة «حزب الله» في حضور رئيس المجلس النيابي نبيه بري شخصياً، وفي عين التينة تحديداً، يوم استؤنفت المفاوضات أثناء الحرب بعد انقطاع، وفي مكتب بري الشخصي خلف الأبواب الموصدة ...
أما لجهة استخدام لغة التخوين والشتائم، فتشير أوساط المعارضة الى أن اتهامات «الغدر» كانت السبّاقة على ألسنة أقطاب فريق السنيورة، حتى قبل بداية الحوار في 2 آذار الماضي. وأن اتهام «الانقلاب» على الدولة، كان باكورة مقالات مكتوبة لنواب من حزب السنيورة الخاص تحديداً. وأن التهديد بما مفاده: إما أن تذعنوا لهذه «السنّية السياسية» كما هي، وإما أن يكون نصيبكم «سنيّة زرقاوية» أو «بنلادنية»، جاء باكراً جداً من أقلام ترشف «حبرها» من معين السرايا الكبيرة ومقرريها. هذا فضلاً عن البيانات «المغفلة» والموزّعة في كل المناطق.
يبقى الحل المنشود، فهل يمكن قياسه على قاعدة معرفة من هو «الصادق أحياناً» أيضاً؟ تقول أوساط المعارضة، قبل جلسة تشاور 11\11 الشهيرة، كان «الصادقون أحياناً» يسبغون على الرئيس نبيه بري أوصافاً «مباركة» في وطنيته وصدقيته والثقة في دوره وموقعه. حتى إذا دقت ساعة حقيقة «الشراكة»، انقلبوا عليه. أما اليوم فتبدو بكركي المرشحة التالية لانقلابهم وتزويرهم وتشويههم والتضليل. والدليل الأول على ذلك تعامل إعلام «الصادقين أحياناً» مع ثوابت الصرح ومبادرته. إذ صدرت أوامر سياسية الى وسائل هذا الإعلام بتغييب الكلام الصادر عن بكركي حول «حكومة الوفاق»، أو تزوير ترتيبه ضمن المبادرة البطريركية، حتى إن السنيورة لم يتطرق إطلاقاً إليها في رده على كلام نصر الله، الذي كان اعتبرها إطاراً صالحاً للتفاوض حول المخارج والحلول.
«الصادقون أحياناً»، قاعدة تبدو صالحة لقياس أفكار السلطة وأقوالها وأفعالها، حتى إشعار آخر.