ابراهيم الأمين
لم يتعطل عمرو موسى كثيراً في بيروت. هو أصلاً ربما لا يقوم بأعمال أكثر أهمية من الذي فعله هنا. ورحلاته المكوكية منذ توليه منصبه لم تؤت ثماراً في أي مكان. لم ينجح الرجل في إدخال دولار واحد الى فلسطين، ولا في إصدار إدانة دولية لجرائم إسرائيل، ولا هو أقنع الدول العربية بتعديل جدول أعمالها الخلافي، ولم ينجح في جمع من لا يريد الاجتماع بالآخر. ربما، أو الأكيد أنه ليس هو السبب، وأن ما بيده لهو أقل بكثير مما هو بيد من بيدهم الأمر أصلاً، ما يدفع إلى التعامل بواقعية شديدة مع مهمته واعتبارها عملاً بريدياً لا حاجة إليه في بلد مثل لبنان تعرف فيه الأشياء قبل أن تعرض او ان تتقرر، ما عدا الجرائم المستمرة كما هي حال فشل “أمن المستقبل” المنتشر كالفطر في كل إدارات الدولة، لا يغني ولا يسمن. وكله ضجيج وتحريض مع نقص فادح في الكفاءة السياسية والمهنية بما يجعل الاسهل برأيهم التحريض باسم الله..
إلا أن الفائدة الوحيدة من تحرك موسى هي إظهار صورة الانقسام اللبناني على حقيقته من جهة، والدخول في لعبة الاحتيال على قاعدة لا حل ولا حرب مفتوحة بل مجرد ربط نزاع.
في إيجاز لما قام به الرجل يتضح أن موسى جاء الى بيروت ومعه كلام نهائي من فريق السلطة مدعوماً بما سمعه من القيادتين المصرية والسعودية ومن المسؤولين الاميركيين والفرنسيين عن ثوابت هذا الوسط وهي تتلخص بالآتي:
منع إسقاط الحكومة في الشارع تحت أي ظرف، ومنع فوز الآخرين. وهو قال هذا الكلام صراحة، وكان طوال الوقت يشدد على ضرورة إنهاء التمرد القائم حالياً. وهو لذلك فتح باب البحث في أي حل من شأنه التوصل الى علاج سريع لمسألة تظاهرات المعارضة وخلاف ذلك. لذلك فإن الامور تبقى معقدة بعض الشيء، باعتبار أن الاجوبة التي تلقاها من جانب المعارضة كانت حاسمة للغاية: لا خروج من الشارع قبل تحقيق مطلب التغيير الحكومي، وأي تسوية لا يمكن الأخذ بتفاصيلها إلا والمعارضة في الشارع. ومع أن موسى حاول الكثير في هذا المجال، وأكثر من الكلام على التهدئة ووقف التصعيد وخلاف ذلك من الكلام الذي يقود برأيه الى خلاصة واحدة هي وقف التحرك الشعبي، فهو سمع موقفاً حاسماً من مرجعيتين أساسيتين في المعارضة: يخرج السنيورة من السرايا قبل أن تخرج المعارضة من الشارع.
ومع ان موسى حاول السير مباشرة بملفات فريق السلطة ولا سيما البند الرئاسي، الا انه انتهى بعد جولات المشاورات الى ان فريق 14 آذار يمكن ان ينفجر بعشرات القنابل البشرية التي تسكن عشرات المرشحين، بينما لم يسمع من سعد الحريري أو وليد جنبلاط أو حتى فؤاد السنيورة أي عبارة عن هذا العنوان، لا بل إن أحد الذين التقوا موسى نقل عنه استغرابه أن الحريري وجنبلاط لا يهتمان كثيراً بالبند الرئاسي الآن وأنهما يميلان كما يبدو الى شخصية من غير الذين يتصرفون كمرشحين من فريق 14 آذار.
وحار موسى ودار ليصل الى الخلاصة التي انتهى إليها الرئيس نبيه بري يوم فتح ملف التشاور، وهي ان الرئاسة مؤجلة الى حين حصول توافق بين القوى الاساسية في الشارع المسيحي أولاً، ثم في فريق السلطة، على مرشح واحد، وهو امر مستحيل، وخصوصاً من يسمع الكلام الصادر عن بقايا قرنة شهوان وعن عودة الحريري وجنبلاط الى تقديم غطاس خوري مرشحاً أول، برغم أن التحقيقات في “بيت الطبيب” شارفت على مرحلة حساسة، وفي الوقت نفسه يعدان شارل رزق ورياض سلامة وحتى جان عبيد بأنهما مستعدان لتسوية في اللحظة الاخيرة، فيما أدرك موسى أن جبهة المعارضة أقرب الى مرشح واحد هو ميشال عون، حتى لو قال هو (أي موسى) إن بري لا يبدو متحمساً لهذه الفكرة الآن.
لكن البحث الآخر لم يصل الى تفكيك الألغام الأساسية في كل النقاط العالقة. ففي ملف المحكمة الدولية لم يصل احد الى خلاصة حاسمة حول حقيقة الموقف الدولي، ويبدو أن الرئيس فؤاد السنيورة يضع الأمر على رأس مباحثاته في العاصمة الروسية. وهو يعرف اصلاً أن كل حملته ومعه كل فريق السلطة تحت عنوان المحكمة الدولية لا تعني شيئاً إذا لم يكن هناك اتفاق عربي ــــــ دولي على المحكمة التي لن يقبل أحد أن يسهّل صدورها إذا كان هدفها ابتزاز سوريا والمقاومة، وهو أمر يقبل به فريق 14 آذار قبل المواجهة السياسية الأخيرة وبعدها، فكيف الحال ونصف قادة 14 آذار يعملون كمخبرين لدى الولايات المتحدة وفريقها الأمني والسياسي، كما عملوا مفبركين للشهود ومزوّرين للوقائع مع المحقق الألماني ديتليف ميليس وهم يشتاقون الآن لعودته رغم أنهم يقرون بأن سيرج براميرتس لم يحد كثيراً عن طريقه ولكن الاخير ربما قلل من هامش الاستثمار السياسي لقوى السلطة الحالية.
أما في ما خص الملف ودراسته من قبل لجنة سداسية فالأمر لا يقتصر على تسمية قضاة أو قانونيين ستة يمثلون السلطة والمعارضة ومستقلين، لأن الأمر يتعلق بكيفية بت المناقشات والملاحظات وما هو العمل في حال عدم التوصل الى اتفاق بين أعضاء هذه اللجنة، ثم إن السنيورة يريد أن يتم إقرار ما يتفق عليه في المجلس النيابي وعدم إعادته الى الحكومة وعدم إعادته الى رئاسة الجمهورية، وهو الأمر الذي أبلغ بري موسى برفضه جملة وتفصيلاً، وقال له: لن يصل إلى المجلس النيابي أي أمر ليس عليه توقيع رئيس الجمهورية، ومهما فعلوا فلن يتسلم المجلس أي قرار بشأن المحكمة ما لم يكن مرسلاً من الرئيس لحود. ثم إن المعارضة تفترض أن تأليف اللجنة القضائية والقانونية لا يؤثر على قرار تأليف الحكومة الجديدة، وان ما تخلص إليه اللجنة يحال الى الحكومة الجديدة التي تقره ويوقعه الرئيس لحود ويرسله الى المجلس النيابي وليس هناك أي خيار آخر.
أما في ما خص الترتيب الحكومي الداخلي فإن السنيورة تراجع أخيراً عن “الفكرة الخرافية بتوزير شخص لا يتمتع بصلاحيات بقية زملائه وقبل بأن يكون الوزير كامل الصلاحيات ولكنه يريد ورقة مكتوبة من قبل قوى المعارضة تتعهد فيه أن لا يستقيل” إلا أن آلية اختياره فيها من السذاجة ما يجعل المرء يقلب على ظهره من الضحك: بري يسمّي والسنيورة يضع العلامات، وفي المرة الخامسة ينتهي الأمر بقبول المرشح... وهل سوف يرشح بري في المرات الأربع من يرضى به السنيورة؟