رزان يحيى
ينزل الملايين إلى الساحات... وليلى في المنزل تحاول إلهاء والدتها عن سماع نشرات الأخبار، خوفاً عليها من “كريزة أعصاب”. ينزل الملايين إلى الساحات... وليلى تحاول الإفادة من وقتها بدلاً من التظاهرات. تنظر إلى المتظاهرين وتقول “حرام” لأنهم سيندمون على وقت ضاع سدىً.
منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وحتى الذكرى الأولى للاغتيال، طغى على حياة ابنة الأربعة والعشرين عاماً روتين يومي يتمثل “بالنضال” من الصباح حتى المساء. ولكن، اليوم، تغيّر الروتين لينحصر نضالها بين الجامعة، حيث تكمل سنة الماستر الأخيرة في العلوم الطبيعية، والمنزل مع “العائلة”.
في 16 شباط 2005، نزلت ليلى مع شقيقها وبعض الأصدقاء إلى تشييع “الرئيس الشهيد”، من دون أن تخبر أهلها الذين كانوا يخافون من خطر محتمل. لكن الرئيس الحريري الذي كان “untouchable” بالنسبة لها، ورمزاً للثري “الذي يعمل خيراً”، قتل، وبذلك يصبح أي شخص معرّضاً للخطر، “لذلك أصررت على المشاركة” والنزول إلى الشارع ضد الاغتيالات السياسية. ومن التشييع، مروراً بسنة كاملة، أصبحت الـDown Town مزاراً بالنسبة لشباب، أصبحوا لاحقاً شباب “14 آذار”.
كانت واحدة من الذين يؤدون فريضة “الحج” يومياً. هي فتاة عادية، غيّرها الآلاف الذين نزلوا إلى “ساحة الحرية”. وطوال سنة كاملة، كانت ترى في نفسها قوة تغيير. تقول إن الشعارات وسقف التغيير العالي مثلاً إغراء كبير للنزول الى الساحة. وتضيف إنها كانت تعيش وهماً، مرجعة السبب إلى التغطية الإعلامية التي ضخّمت حجم الاعتصام ودور شباب 14 آذار. أما شعار “الوحدة الوطنية” الذي تغنّت به الساحة فكان الجاذب الأكبر. فابنة الجبل، وبالتحديد صاليما ــ المتن، ترعرعت في منزل شيوعي الفكر والممارسة، يرفض الطائفية، لذلك يوم رأت اللبنانيين يرفعون القرآن إلى جانب الإنجيل و“القلوسة”، اعتقدت أن اللبناني أصبح مواطناً فقط، لا مواطناً من الطائفة “X”، واعتقدت أن ربيع لبنان الموعود آت لا محالة “على أيديهم”. ومع الوعود كبرت الحماسة، إضافةً إلى “أمور ستصبح تحصيل حاصل” مثل خفض سعر صفيحة البنزين 8 آلآف ليرة “أي ما تجمركه سوريا”. تضحك، وتقول “عن جد فكّرنا رح ينزّلوها ... لكنهم رفعوها 3 آلاف ليرة”. كانت تأمل أن تمر من جانب السفارة الفرنسية ولا تجد “طابوراً” من الشباب ينتظر الفيزا.
تشبه ليلى عدداً كبيراً من الذين نزلوا إلى ساحة الحرية. لكن عندما شعرت أنّ في خطاب القيّمين على الاعتصام لهجة طائفية وتحريضية، انسحبت.
هي آذارية الهوى، لأنها تتعاطف مع “يلّي عم ياكل العصي”. هي آذارية الهوى، لكنها ترفض التهجم على سوريا “جارك بخير إنت بألف خير”. لكنها يئست من تحرك ذهبت فيه الوعود أدراج الرياح، وهي تعرف أن 14 آذار كما 8 آذار، يَعِدون بالتغيير ويتبنون مشاريع اقتصادية واجتماعية، لكنهم يتغيرون عندما يتسلمون السلطة.
حرب تموز كانت مفصلية بالنسبة لها، وهي ترى في “السيد” و“الأستاذ” و“رجل الدولة” أعمدة وطن سليم وقوي.
ليلى التي لم تفوّت نشرة أخبار إلا حضرتها، تحلم اليوم بحزب شفاف، لا تهمّه الأرقام. تحلم بحزب صادق “ما عندو تلفزيون” ويرفض أن يقف أبناؤه بالصف على أبواب السفارات، حزب يحب البيئة، و”يحمل قضايا” الفقراء. وفي الساحات ملايين يطالبون، على حد اعتقادها، بالمبادئ نفسها.
“الزعما عم يستغلّوا الشعب والشعب معتّر”. تقتبس ليلى هذه الجملة من مسرحية زياد الرحباني “فيلم أميركي طويل”، لتختصر حالة عاشتها، ولتعبر عن خوفها على متظاهري ساحات اليوم. ليلى لم تنزل في تشييع وزير الصناعة اللبناني بيار الجميل لأنها تعرف أنهم يريدونها رقماً إضافياً يتباهون به. تتحسر على الذين تراهم يهتفون ويؤمنون بالتغيير. تتحسّر على شباب لن يحققوا طموحاتهم التغييرية. فالوقت غير المنتج الذي يقضونه في الشارع يقتل حماستهم، وإذا أنتج فلن يكون إلّا على حسابهم.