نقولا ناصيف
العودة المرتقبة للأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى إلى بيروت غداً، تعيد طرح تساؤل عن هامش الاجتهاد الذي يملكه لدفع طرفي النزاع إلى التجاوب مع خطته، لإنهاء الخلاف الناشب بينهما. وقد يكون استكمال مهمته أكثر تعقيداً من النتائج التي كان قد أحرزها في جولة الأسبوع الفائت ما بين الثلاثاء والخميس عندما أحرز في الظاهر تقدّماً نحو حلّ تنصّلت منه الغالبية الحاكمة والمعارضة بعد سفره: عندما ألقى كل منهما على الآخر مسؤولية إخفاق تنفيذ ذلك الحلّ، وعندما اجتهد كلّ منهما أيضاً في ترتيب أولويات الحلّ تبعاً للمكاسب التي يطلبها هو من هذا الحلّ، وعندما خلصا بالتناوب إلى رفض ضمني للخطة برمتها لإبقاء المواجهة مفتوحة.
كل ذلك يفتح باب التكهّن عن أي أفكار جديدة يمكن أن يعود بها موسى.
في واقع الأمر، يبدو موسى أكثر تفاؤلاً من الغالبية والمعارضة على السواء. ويسترجع بدوره هذا ما كان قام به أحد أسلافه الطويلي الباع في الصبر ومشقة الإصغاء، الشاذلي القليبي، في منتصف السبعينيات ثم في مطلع الثمانينيات. تنقّل القليبي بمكوكية عبثية ومضجرة بين اللبنانيين المتنازعين قبل أن يكتشف مفتاح إشعال الحريق وإطفائه في دمشق. كانت تلك مهمته عامي 1975 و1976 قبل أن تسلّم الجامعة العربية لسوريا بحلّ المشكلة اللبنانية على طريقتها، وأوجب ذلك انتقال المبادرة السورية «النزيهة» ــ كما طرحت نفسها ــ إلى تدخّل عسكري لجيشها النظامي. وكانت كذلك مهمته عام 1981 بين الأفرقاء اللبنانيين إبّان «حرب زحلة»، وكانت المشكلة نفسها، وهي ماذا تريد سوريا من لبنان؟
في مرحلتي وساطة الجامعة العربية هاتين، لم يكن في وسع القليبي إلا تحقيق هدنة الحدّ الأدنى، وكان يحظى على الدوام بدعم عربي غير مشروط، وآخر أميركي وفرنسي مماثل، من غير أن تتدخّل واشنطن وباريس في المستنقع اللبناني ووحوله الطائفية آنذاك. وقد تكون هذه أيضاً حال الجامعة العربية والعاصمتين الأميركية والفرنسية: إطفاء الحريق المذهبي أكثر منه حلاً سياسياً مشرّفاً لكل الأفرقاء.
وعندما يكون الأمر هو هذا، أي الخشية من انفجار نزاع طائفي أو مذهبي، يتدخّل العرب. وقد تكون هذه العبرة مصدر خشية ألا تفضي مهمة موسى إلى أكثر من استعادة دروس سلفه: تنظيم نزاع اللبنانيين من دون إيهامهم بوهم أن الجامعة العربية قادرة على حلّ مشكلاتهم.
والواقع أن الجامعة نجحت عام 1976 في تكريس هدنة سنتين عندما صالحت الرئيسين أنور السادات وحافظ الأسد، وصالحت الأخير مع الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات. ونجحت عام 1981 في تكريس هدنة سنة واحدة عندما سلّمت للأسد باستمرار دوره في لبنان بموافقة سعودية ــ كويتية برعاية الجامعة نفسها. وهي المشكلة التي تحمل موسى اليوم على التجوال عربياً، كما حملت من قبل القليبي على دور مطابق، من أجل مصالحة العاهل السعودي الملك عبد الله مع الرئيس بشار الأسد. عاما 1976 و1981 كانا لإطلاق يد سوريا سياسياً وعسكرياً في لبنان، وعام 2006 لإقناعها بأن عليها أن تصدّق فعلاً أنها خرجت من لبنان، ولن تعود إليه عسكرياً أبداً.
وكما في تينك السنتين كان ثمة ثمن دفعه اللبنانيون، فإن تسوية الجانب الإقليمي من الصراع الذي يديره اللبنانيون في ما بينهم له سعره كذلك.
يعيد ذلك كله طرح السؤال نفسه: ماذا في وسع موسى حمله إلى بيروت غداً كي ينجح هذه المرة، ويصدق محاوريه؟
استناداً إلى مطلعين عن قرب على تحرّكه، فإن الاجتهاد الذي طرحه على فريقي الخلاف لانتزاع موافقتهما وإحداث فجوة جدية في المأزق، يكمن في أمرين تعاملت معهما الغالبية والمعارضة بلامبالاة، فأوقعتا الرجل في فخ المراوحة والعجز:
أولهما، طرحه آلية لتكوين حكومة الوحدة الوطنية من خلال تحديد طريقة اختيار الوزير المستقل عن الطرفين. اقترح أن تسمي المعارضة الاسم وتوافق عليه الغالبية، على أن يُعطى للمعارضة حق التسمية حتى عشر مرات. وكان الاقتراح قضى في إحدى محطات المفاوضات بإعطاء المعارضة حق اقتراح الاسم حتى خمس مرات، في حين رأى رئيس الحكومة فؤاد السنيورة أن يكون حق التسمية ثلاث مرات. وبدا هذا الحل جزئياً ومحاولة تطوير لاقتراح السنيورة المتعلق بمعادلة 19 + 9 + 2، وهو أقصى ما يمكن أن يتنازل فيه والغالبية المؤيدة له، بحيث يتخليان عن ثلثي مقاعد حكومة الوحدة الوطنية من دون إعطاء المعارضة الثلث زائداً واحداً في مجلس الوزراء، فيتساويان في عدم تمكين أي منهما من السيطرة على قرار مجلس الوزراء، أو تعطيل انعقاده وصدور قراراته، أو حتى إسقاطه. وهو الاقتراح الذي أرسله السنيورة إلى المعارضة أولاً، ثم حمّله إلى الموفد السوداني مصطفى عثمان إسماعيل قبل مجيء موسى إلى بيروت. ثم طوّر رئيس الحكومة اقتراحه مع الأمين العام للجامعة العربية بجعله 19 + 10 + 1.
والواضح أن الاقتراح كان يحمل في ذاته بذور كذبته، وفي أبسط الأحوال اعتباره مناورة: عوّلت الغالبية على رفض المعارضة له انطلاقاً من تعنّتها للحصول على الثلث زائداً واحداً صافياً في الحكومة الجديدة، وأدركت المعارضة في المقابل أن الغالبية غير جادة فيه، تارة بطرح مواصفات استثنائية للوزير المستقل كي توافق عليه، وطوراً باشتراط إقرار مشروع المحكمة الدولية في الحكومة الحالية وإرساله إلى مجلس الأمن، ثم يبدأ الخوض في تأليف حكومة وحدة وطنية.
وهكذا يكشف الطرفان، كل للآخر أنه يخدعه: لا يريد الاقتراح برمته، وأنه يسعى إلى حكومة جديدة يريدها بشروطه هو، ويرجّح هو كفة السيطرة على قرارها.
وثانيهما، اقتراح موسى اللجنة السداسية المكلفة إجراء قراءة جديدة لمشروع المحكمة الدولية. وبدا المقصود الحصول على تنازل من الغالبية عن اعتبار المشروع وثيقة نهائية غير قابلة التعديل. إذ لا يعني تأليف لجنة لإعادة قراءة المشروع إلا تسليماً بتجاوز إقراره في جلستين لمجلس الوزراء في 13 تشرين الثاني و12 كانون الأول، واستعداداً للبحث فيه مجدّداً. لكن نتائج التفاوض مع طرفي النزاع عكست اتجاهات مغايرة: تريد الحكومة والغالبية مراجعة شكلية للمشروع وإقراره للمرة الثالثة دونما نقض ما كان أقره مجلس الوزراء. وتريد المعارضة مناقشته بتأنٍّ يأخذ في الاعتبار أيضاً مخاوفها من تسييسه، وكذلك ملاحظات الرئيس إميل لحود لنيل موافقته على توقيع المشروع في محطته الدستورية الأخيرة. على أن يحصل ذلك كله في ظلّ حكومة الوحدة الوطنية.
مغزى ذلك كله، أن كلاً من الغالبية والمعارضة لا يستعجل الاتفاق، ولا يريده كذلك قبل انقضاء أسابيع. بل يتوقع إنهاك ندّه واستنزافه كي يسقطه نهائياً.
... إلا إذا تصالحت الرياض ودمشق.