جوزف سماحة
جورج بوش قبل أسابيع قليلة، رداً على سؤال عن العراق: بالتأكيد، إننا نربح.
جورج بوش قبل يومين، رداً على سؤال عن العراق: إننا لا نربح، ولكننا، أيضاً، لا نخسر.
الرئيس الذي لا يغيّر رأيه يغيّر رأيه. يستطيع أن يتراجع، في ما يخص العراق، من الوضوح القاطع إلى الغموض والالتباس. لقد حصل في المهلة الزمنية الفاصلة بين الجوابين أن بوش، بالتأكيد، خسر في... الولايات المتحدة.
«لا نربح ولا نخسر» هو عنوان اللحظة الراهنة في السياسة الأميركية حيال العراق. وصف يعبّر عن بداية الشعور بالمأزق ولو أرفق ذلك بمعاندة ترفض الاعتراف. إلا أن المشكلة هي أن الوضع يتدهور. فليس من المعقول ألّا يكون الرئيس قد اطّلع على التقارير الرسمية التي تتحدث عن حوالى مئة وخمسين عملية عسكرية هجومية يومياً في العراق، معظمها ضد القوات الأميركية ولو أن أكثرها دموية ضد العراقيين. وإذا افترضنا أن الرئيس طالع تقرير بيكر ـــ هاملتون حقّ لنا الاستنتاج أنه مرّ على تلك السطور القائلة بأن طريقة احتساب عدد العمليات غير دقيقة لأنها لا تسجّل كل ما يحصل. ولقد أورد التقرير مثالاً عن يوم قيل فيه إن أقل من مئة عملية حصلت، فيما الحقيقة هي وقوع أكثر من ألف عملية. وبحساب بسيط، وتأسيساً على مقارنات بتقارير سابقة، يمكن القول إن عملية عسكرية تحصل في العراق كل دقيقة أو دقيقتين وإن الوتيرة هي إلى ازدياد.
«لا نربح ولا نخسر» استراتيجية يصعب الصمود عندها. والواضح أن بوش يريد وضع كوابح متهالكة للجم الانزلاق. يطلب ميزانيات إضافية ملتفّاً على الكونغرس، ويميل إلى اقتراح زيادة القوات المقاتلة في بغداد خلافاً لرأي قادة ميدانيين سبق له أن أقسم إنه سيحترم تقديراتهم. لم تعد هذه العلاجات تكفي ولن تمرّ أسابيع قبل أن يضطر البيت الأبيض إلى حسم رأيه.
من البداهة الإشارة إلى أن بوش كان يثق بأنه سيربح في العراق. والأنكى من ذلك أنه بنى استراتيجية إقليمية ودولية على هذه الفرضية. نعم لقد أقام ربطاً محكماً بين العراق وأزمات المنطقة كلها، لا بل بين النجاح في العراق وإعادة هيكلة الشرق الأوسط الكبير، وأكثر من ذلك، بين «النموذج العراقي المرتجى» وموقع أميركا في قلب العلاقات الدولية. تصوّر بوش عراقاً افتراضياً فأمكن له أن يعيد صياغة إيران وسوريا والسعودية ومصر وقضية فلسطين ولبنان والعالم الإسلامي... أقام عمارة شاهقة أساسها المتين الربح في العراق.
اتخذ بوش في أثناء النشوة الأيديولوجية هذه قرارات سياسية ودبلوماسية تحوّلت إلى إجراءات ملموسة حيال خصوم. ولما عدّل جزئياً في ذلك منتقلاً من ثنائية الديموقراطية ـــ الديكتاتورية إلى أولوية الثنائية الجديدة الاعتدال ـــ الإرهاب، حاول الإبقاء، حيث أمكن، كما في لبنان، على عناصر من المعادلة الأولى.
إلا أن السياسات التي كانت متّبعة، ولا تزال إلى حد بعيد، تصبح عديمة الجدوى إذا «كنّا لا ننتصر حتماً في العراق». لا بل يمكن لها أن ترتدّ على الذين يتّبعونها وتزيد من المآزق التي تواجههم.
جاء تقرير بيكر ـــ هاملتون ليلامس هذه النقطة بالتحديد. فهو يقول إن السياسة التي يجب اتّباعها إقليمياً، إذا كنا لا نربح في العراق، لا يمكنها أن تكون السياسة التي نتّبعها كما لو كنا نربح في العراق. وهكذا بدل أن تكون بغداد منطلقاً للتغيير في طهران ودمشق والرياض والقاهرة ورام الله والقدس، باتت هذه العواصم مدعوّة إلى أن تؤدي كل واحدة دورها من أجل المساعدة في تغيير السياسة الأميركية في العراق، وتأمين مخرج لائق لها.
وليس سراً أن تقرير بيكر ـــ هاملتون يستند إلى مقدمة تحسم في أن الربح الأميركي في العراق بات خارج متناول اليد. وتوافق نخبة أميركية واسعة على هذا التقويم الذي يبدو مقنعاً حتى لأوساط في الحزب الجمهوري.
ويذهب التقرير الصادر قبل أيام عن «مجموعة الأزمات الدولية» في المنحى نفسه ولو أنه يدعو إلى علاجات أكثر جذرية سواء في العراق أو على صعيد التعاطي مع المحيط الإقليمي.
إذا «كنا نربح في العراق» فهذا يمكنه أن يقود إلى سياسة إقليمية معيّنة (إعادة الهيكلة الإجمالية). وإذا «كنا نخسر في العراق» فهذا يمكنه أن يقود إلى سياسة إقليمية أخرى (البحث عن الاستقرار عبر التسويات). ولكن السؤال المطروح اليوم بإلحاح هو عن السياسة الإقليمية الممكنة إذا كنا «لا نربح في العراق ولا نخسر»!
لا جواب واضحاً عند الإدارة الحالية. أكثر من ذلك فإن الجواب الممارس والباقي الأكثر ترجيحاً هو: نحن مستمرون في سياستنا الإقليمية بغض النظر عمّا إذا كنا نربح أو نخسر. إن هذا الجواب لا مردود له سوى مفاقمة الأزمات، وهذا ما نراه بوضوح قاطع هذه الأيام في لبنان وفلسطين.
أمام هذا المأزق تتلقّى الإدارة دعماً من أوساط أميركية يمينية معروفة في وضعها إسرائيل في الموقع المركزي لسياسة الولايات المتحدة في المنطقة. ويقوم هذا الدعم على صياغة نظرية جديدة مؤدّاها أن لا مجال لإقامة أي رابط من أي نوع بين ما يجري في العراق وبين الملفات الإقليمية الأخرى. ما العلاقة بين الأنبار ودارفور مثلاً؟ تقول هذه الأوساط. قد تكون محقّة جزئياً في هذا المثال، إلا أنها تمضي إلى الزعم أن «نظرية الدومينو» خاطئة من أساسها، إذ لا علاقة بين العراق وفلسطين، ولا بين فلسطين ولبنان، ولا بين العراق وسوريا أو إيران... «الكوارث الوطنية لا تتحوّل كوارث إقليمية» (روبرت ساتلوف)، ولذلك فإن «حكماء» لجنة بيكر ـــ هاملتون هم، في الحقيقة، أغبياء يتجاهلون ربع القرن الماضي من تاريخ الشرق الأوسط الذي أثبت «قوّة الدولة الوطنية» وألغى أي عبور للحدود.
إن هذه الأوساط نفسها هي التي وفّرت للإدارة الأساس النظري للتغيير الشامل البادئ من بغداد ـــ المنارة. كان ذلك في أيام تسويق الحرب والرهان على نتائجها. أما اليوم فإن التوجّه هو للانسحاب من تحمّل النتائج بعد فشل المقدمات.
إن ما ترفضه هذه الأوساط ليس الربط بين أزمات المنطقة (الدومينو الإيجابي من وجهة نظرها) بل الوجهة الجديدة المقترحة لهذا الربط (الدومينو السلبي من وجهة النظر نفسها).
... لقد ربطت السلطة اللبنانية ديناميتها ببوش الواثق من نفسه «بالتأكيد، إننا نربح». ما العمل (كما يسأل زياد الرحباني) إذا كان بوش انتقل إلى مرحلة «لا نربح ولا نخسر»؟ وما العمل، فعلاً هذه المرة، إذا كان بوش يخسر؟