أنسي الحاج
تنحطّ الكلمات كما ينحطّ المزاج. أو الحضارات. تذوي وتيبس. تتّسخ، تتعفّن. تخلع عليها الأيّام أحوالها. أرى الكلمات أشبه بالنعال المهترئة، تعجز عن احتمال أفقر قدم، فكيف بالمعاناة والأفكار؟ الموضوعات أكثر من البحر، والكلمات منهارة.
تخلع عليها الأيام أحوالها أو هي ما يخلع أحوالها على الأقلام وأصحابها، لا يهمّ. نتعامل معها كما يتعامل المشلول مع عكّازه. عجز يلجأ إلى عجز.
خيانة، أن تنشر الكلمات أجواء القنوط. جريمة أن تُقْعد من في حاجة إلى أن يَنْهض. ولكنْ حين تنهار الكلمات فمن يُنهضها؟ وحين تنهار النفوس التي وراء الكلمات فمن يُنهض النفوس؟ وحين تُمسي الحقائق جثثاً والجثث حقائق فمن يَبْعث الروح؟ وحين تحتشد الصدور بالغبار والعيون بالظلام والآذان بالبلبلة، فهل هناك بَعْدُ صورة أكمل للبشاعة، للاختناق؟
خيانةٌ أن تستسلم الكلمة.
جريمة كبرى أن تُوصَلَ الأمور إلى توليد تلك الخيانة.
حتى الشعر، ويقال إنه الملاذ في حالات التأزّم هذه، لا يعود شيئاً.
هزيمة أعمق من الكلمة، لا تداويها الأغاني. الجمال، الجمال نَفْسُه، ينفضح أمامها. ولا أيّة فكرة.
اليباس يستحضر اليباس.



من وحي الشاشات
من وحي وجع السوّاقين والباعة
من وحي التلامذة والمتخرّجين
من وحي البنات المستوحدات
من وحي الجرائد
من وحي المنابر
من وحي الضواحي والقرى والشوارع
من وحي النراجيل والأعياد
من وحي العيون المسكونة والعيون المهجورة
من وحي بلدنا والبلدان الأكثر بؤساً من بلدنا
من وحي عجزنا وعجزنا وعجزنا
من وحي غَرَقنا ولا موج، لا صحراء، لا مستنقع
من وحي اختناقنا في وطن الهواء
من وحي اصفرار روحنا المصدورة، روحنا غير المعترَف بوجودها إلاّ للحرمان
من وحي جلساتنا المصطنَعة السلوى الساحبة وراءها أذيال الرماد
من وحي مواهبنا الضائعة وطاقاتنا المُنْتَحَرة وبراءتنا المملوءة مساحاتها بفجور الفجّار وغباء الأدعياء وسماجة الزعماء
من وحي الوقوف مبهوتاً وسط حديقة الكلمات الملأى بالأوراق الصفراء
من وحي أعياد لا تَبْعث إلاّ على النقمة
من وحي فراغ لم يَعُدْ يرفض شيئاً...



ليست الكلمات هي المسؤولة بل تبخُّر الروح وفرارها من مدخنة الحريق.
هو الكيان يَنْسحق.



بلغت الخطب القمّة. الخطب، المؤتمرات، التصريحات. قمّة التفليس. لم تُفْلس هي، بل أشهرت إفلاس اللغة. جوّفت الدماغ. أطبقت على الأنفاس.
في الأساس لغة مغلوبة بمستعمليها. منغلبة تحت أمرهم.
والانحباس الذي يفوح من الكلمات هنا، ليس شيئاً أمام الواقع.
واقع يُميتنا لأنه يُميت الوَقْع والمعنى.
نقول تعوّدنا الخسارة، فإذا بنا أمام خسارة أكبر لم نعرفها. نُزول مفتوح على طول.
في وقت كهذا (وكغيره من دون شكّ) يتمنّى المرء لو كان كائناً من غير البشر. حتّى لا يُعدى. حتى لا يُعيَّر أمام المرآة. شرّ أنواع التمزيق هو التمزيق الذي تُحْدِثه الكلمة. في زمن جلقامش وداود وسليمان وحزقيال وإرميا كان لبنان شهوة العشّاق وقبلة الشعراء. تمنّى موسى على ربّه أن يسمح له بدخول لبنان فنهره ربّه رافضاً، غيوراً على أرض الأرز الذي يقول أحد المزامير إن الله نفسه نَصَبه في أعالي لبنان. في عهدنا صار اسمنا مرادفاً للانتحار. عصاة على المحتلّين وفريسة للطامعين... ألا نستطيع أن نكون الأولى من دون الثانية؟ ولو نصف، ربع قرن!؟
«كلّكِ جميلة يا خليلتي
ولا عيبَ فيكِ.
هلمّي معي من لبنان أيّتها العروس
معي من لبنان.
شفتاكِ تَقْطران شَهْداً
وتحت لسانكِ عسلٌ ولَبَنٌ حليب
ورائحة ثيابكِ كرائحة لبنان».
هكذا يخاطب العاشق حبيبته في «نشيد الأناشيد» المنسوب إلى سليمان الحكيم، فتجيب المعشوقة:
«حبيبي أبيض أصهب
عَلَمٌ بين ألوف
ساقاه عمودُ رخام
موضوعان على قاعدتين من إبريز
وطَلْعَتُهُ كلبنان.
هو مختار كالأرْز...».
ويجيبها العاشق:
«ما أجمل قدميكِ بالحذاء
يا بنْت الأمير!
سرّتُكِ كأسٌ مدوّرة
لا يَنْقُصُ مزيجها
وبطنكِ كومةُ حنطة
يَسيّجها السوسن.
أنفكِ كبرج لبنان
الناظر نحو دمشق.
رأسكِ عليكِ مثل الكرمل
وشَعْرُ رأسكِ كأرجوان...».
... إلى آخر ما لا آخر لروعته في إحدى قصائد العشق الأخْلَد.
الأسطورة لبنان، طفل التاريخ المدلَّل، زعتر الأرض، ينبوع التواصل ومدرسة العيش، موطن تمّوز ودم تمّوز، ليس هذا الذي تَلْفُظُ فيه الحياة أنفاسها. والحقيقة أنفاسها. والمعنى أنفاسه. والكلمات أنفاسها.
أما من كلمة في هذا الفضاء، على هذا الورق، أما من كلمة على لسان، تُشْرق!؟ تُخلّص!؟ هل باتت كلّ الكلمات شمطاء مميتة؟ وكلّ الأصوات من غير رؤوس؟ رائحة لبنان، سيّدي العاشق، لم تعد عطراً لثياب حبيبتك. رائحة لبنان هي رائحة المستشفيات والانحطاط ومطار الهجرة. رائحة الجحور والخوف. رائحة فجور الكراهية.
ونحن، نحن الكَتَبَة، ماذا نفعل؟ نمارس الكلام كأنه حيّ يُرْزَق! كأنّ العالم لم ينتهِ!
نعبّئ القناني بالفراغ.
ملعونون نحن وقرّاؤنا، وقبائلنا، وشعبنا.
ملعونون نحن وجميع تلك الشعوب المندفعة بشَغَف إلى الهاوية والتي لا تستحقّ حتّى الاستعمار.