عرفات حجازي
دارت الأزمة على نفسها وعادت إلى وسط الدائرة. فبعدما جال عمرو موسى واتصل وتشاور، عاد إلى بيروت ليجد أن الأزمة تناسلت أزمات، وبات ملزماً معالجة عوارضها المستجدّة قبل أن يبدأ من النقطة الصفر، سعياً الى صيغة خلّاقة توفّق بشكل متواز ومتزامن بين إقرار مشروع نظام المحكمة الدولية وقيام حكومة الوحدة الوطنية.
كان موسى واثقاً بقدرته على اختراق جدار التصلّب السياسي بعدما تزوّد مواقف عربية ودولية واسعة داعمة لمبادرته، ما دفعه إلى الإيحاء بأن وساطته وصلت إلى مرحلة السير على الطريق العالي السريع. لكنه سرعان ما اكتشف أنها انحرفت مجدداً إلى ممرات ومسالك وعرة عجز عن اجتيازها فغادر إلى القاهرة «خالي الوفاض»، تاركاً الأزمة في المربع الأول من دون خطوات ومساهمات عملية، بعدما انقلب الفريق الحاكم على الإطار العملي للحل، وتحديداً على الآليتين اللتين تم التفاهم عليهما، وهما تشكيل اللجنة السداسية القضائية القانونية واختيار «الوزير الملك» في إطار صيغة الحكومة الموسّعة.
وليس أمراً مبالغاً فيه القول ان التجاوزات القانونية والخروق الدستورية لفريق السلطة استغرقت معظم أوقات اللقاءات المطوّلة التي عقدت بين السرايا وعين التينة. فنشر مرسوم مشروع المحكمة ذات الطابع الدولي في الجريدة الرسمية عطّل كل إمكان لوضع هذا الموضوع في مساره الدستوري السليم. إذ لو كان فريق السلطة جاداً في الوصول إلى حل لما تراجع عن تعهّده لموسى. ففي أثناء وجوده في القاهرة، نشر المرسوم، وأثناء توجّهه إلى دمشق بادر هذا الفريق إلى رفع العريضة النيابية المتعلقة بالمشروع إلى مجلس النواب والطلب إلى رئيسه عقد جلسة لمناقشته وإقراره، علماً بأنهم يطالبون بمناقشة مشروع لم يصل إلى المجلس بعد. من هنا جاء إصرار الرئيس بري في أول لقاء مع الأمين العام للجامعة على أن الخطوة الأولى لإعادة النقاش حول الأفكار والآليات المطروحة للمبادرة تبدأ بسحب مشروع المحكمة من الجريدة الرسمية وإعادته إلى رئيس الجمهورية بحسب الأصول القانونية والدستورية، قبل البحث في أي أمر آخر، معتبراً أن هذه الخطوة تؤسس لاستكمال البحث في بنود المبادرة، فإما أن يوقّعه رئيس الجمهورية بعد إعادة التأكيد عليه في مجلس الوزراء، وإما ينشر حكماً في الجريدة الرسمية بعد انقضاء المهلة القانونية المحددة.
وفي رأي الرئيس بري أن مشروع المحكمة بعد استرداده يجب أن يُبحث ويقر في حكومة الوحدة الوطنية، بحيث تحال الملاحظات والتعديلات المقترحة على المشروع لا إلى المجلس. ولفت نظر الوسيط العربي إلى أن إحالة المشاريع على مجلس النواب من مجلس الوزراء تجري عن طريق رئيس الجمهورية وفق الدستور، وأن توقيع أية معاهدة أو اتفاق دولي يستلزم موافقة رئيس الجمهورية مع رئيس الحكومة، ومن غير الصحيح دستورياً تجاوز هذه الصلاحية. وأكد بري لموسى أنه ليس في وارد أن يسجل في حياته السياسية أنه خرق القوانين وانتهك الدستور وأنه متمسك بعدم دعوة مجلس النواب إلى الانعقاد لمناقشة وإقرار مشروع المحكمة إلا بعد حل أزمة الحكومة. لكن موسى الذي سبق واستمع إلى وجهة نظر الرئيس السنيورة، عرض على الرئيس بري إمكان استرداد المشروع، شرط عدم إحالته على رئيس الجمهورية، فرد الرئيس بري قائلاً: «إنك تعطيني الوضوء ولا تعطيني الصلاة». ودار جدل ونقاش حول تشكيل اللجنة السداسية فتبنّى موسى اقتراح فريق السلطة بتشكيلها على النحو الآتي: إثنان من الموالاة وإثنان من المعارضة بالإضافة إلى القاضيين رالف رياشي وشكري صادر. وقد اعترض الرئيس بري على القاضيين لأنهما من وضعا مسوّدة مشروع المحكمة، وهذا يعني إفراغ الاقتراح من مضمونه فتصبح اللجنة عبارة عن أربعة لفريق السلطة وقاضيين للمعارضة، واقترح تعيين قاضيين نزيهين من قضاة مشهود لهم بالنزاهة والحياد. لكن الأمر ظل موضع أخذ ورد ولم يحسم، كما لم تحسم مسألة إلى أين سترسل التعديلات والملاحظات: إلى الحكومة الحالية كما يقترح السنيورة للبت بها، أم تحال إلى حكومة موسّعة يشارك فيها الجميع وتقر وترسل مع مشروع المحكمة إلى رئاسة الجمهورية وفق الأصول، ليصار إلى توقيعها وإحالتها إلى المجلس النيابي؟ وعندها، وفق الصلاحيات المعطاة لرئيس المجلس، بإمكانه أن يضعها على جدول أعمال الجلسة العامة من دون أن تمر في اللجان. بهذه السرعة يمكن أن تكتمل دورة الموافقات والتوقيعات والإحالات بالطريقة الدستورية السليمة كما يطالب بها مجلس الأمن.
وثمة نقطة أخرى جرى نقاش حولها بين بري وموسى تتعلق بواقع المؤسسات الدستورية التي تتبادل الطعنات في ما بينها وحال الشلل المسيطرة عليها، فهناك رئاسة جمهورية محاصرة ومعزولة في بعبدا، ورئاسة حكومة مسجونة ومشلولة في السرايا، بقي المجلس النيابي آخر القلاع الدستورية بعيداً من هذا الوباء. وسأل بري موسى: لمصلحة من يريدون تعطيل دور المجلس النيابي وهم يملكون الأكثرية فيه؟ لماذا محاولات ضمّه إلى الرئاسة الأولى وإلى الحكومة لإتمام حال الانشقاق في البلد كي تضرب الفوضى في أرجائه؟ إنهم يلعبون لعبة قذرة تقف وراءها جهات دولية مشبوهة هدفها تصوير رئاسة المجلس وما تمثّل بأنها ضد قيام المحكمة الدولية لإحداث فتنة مذهبية في البلاد.
في المحصّلة، لا مفاعيل حقيقية لمبادرة عمرو موسى ووساطته، فهو لم ينجح بإنهاء الفوضى الدستورية التي تدفع بالبلاد إلى أزمة وطنية كبرى ولم يتمكن من إزالة خطوط المواجهة السياسية والعودة إلى خفض السقوف العالية. وغادر مع وعد بأن تظل خطوط الاتصال تعمل بطاقتها القصوى على مختلف المحاور العربية والإقليمية والدولية بحثاً عن حلول ومخارج لأن أحداً لا يستطيع أن يتحمّل تحويل لبنان إلى عراق ثانٍ أو غزة أخرى.