نقولا ناصيف
ينقضي عام 2006 بالمشكلة التي انتهت إليها سنة 2005، وهي المحكمة الدولية في اغتيال الرئيس رفيق الحريري. السنة الفائتة طويت على تهديد شيعي بالخروج من حكومة الرئيس فؤاد السنيورة، عندما اعتكف الوزراء الشيعة الخمسة في 12 كانون الأول 2005. والسنة الحالية تُطوى بحدثين متلازمين: استقالة الوزراء الخمسة في 11 تشرين الثاني ونزول الفريق الشيعي إلى الشارع منذ الأول من كانون الأول. بذلك تبدأ السنة الجديدة والبلاد تكاد تكون على فوهة بركان بعدما بلغ التصعيد بين الغالبية الحاكمة والمعارضة الذروة، الأمر الذي يسجّل ملاحظات قد تكون على صلة بمسار الأسابيع الأولى من السنة الجديدة:
أولاها، أن المحكمة الدولية أصبحت المشكلة التي تدفع بالوضع الداخلي إلى الاتفاق أو الانهيار. وبعدما نجحت المعارضة منذ اليوم الأول لاعتصامها المفتوح في ساحتي الشهداء ورياض الصلح في جعل السجال الساخن يتركز على تأليف حكومة وحدة وطنية والأواليات المناسبة لتحقيق مطلب يوازن بين ما تصرّ عليه المعارضة وما لا تتخلى عنه الغالبية، نجحت الأخيرة في قلب الأولويات وإعادة مشروع المحكمة دون سواه إلى الصدارة. وبعدما أمسكت المعارضة بسلاح عدم انعقاد مجلس النواب للضغط على الغالبية بغية إدخال تعديلات على المشروع، بدا أن الأخيرة تنحو إلى مخرج لا يجعلها تلحّ على مصادقة البرلمان، إما بتعديل المشروع في مجلس الوزراء وتجريده من طابع معاهدة دولية ليصبح اتفاقاً ثنائياً، ويوجب تجاوز مجلس النواب وتجاهل ردّ فعل الفريق الشيعي، أو محاولة تسعير التشنج الداخلي لاستدراج مجلس الأمن إلى التقاط المبادرة وإنشاء محكمة دولية غير مختلطة تقع أحكامها تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة (من غير أن يكون ذلك مؤكداً). لكنّ أيّاً من هذين الخيارين لا يقتصر على وضع الفريق الشيعي أمام أمر واقع فحسب، بل يفتح الباب على ما قد يكون أدهى من ذلك.
ثانيتها، أن المواجهة الحالية تكاد تتحوّل من انقسام بين الغالبية والمعارضة إلى المنطقة المحظورة في علاقات الطوائف اللبنانية بعضها ببعض. وتكاد تخرج من خلاف على خيارات سياسية إلى ملامسة ما يشبه «حرب بقاء» لهذه الطائفة أو تلك. ذاك ما تعنيه على الأقل سجالات الأيام الأخيرة بين رئيس «اللقاء الديموقراطي» النائب وليد جنبلاط و«حزب الله» من خلال الاتهامات بالقتل والتواطؤ التي تبادلاها. بل بات واضحاً أن كلاً منهما يلعب حيال الآخر صولداً قاتلاً. والواقع أنهما، دون سواهما ربما من الأفرقاء اللبنانيين، يغامران أحياناً بالصولد من دون تردّد: «حزب الله» مارسه ضد الاحتلال الإسرائيلي سنوات طويلة عندما اندفع به إلى أبعد من حافة الهاوية في أكثر من حرب إقليمية صغيرة (كنيسان 1996)، ثم كان آخر صولد خبره مع إسرائيل ــــــ وقد لا يكون الأخير ــــــ في حرب 12 تموز. لعب كذلك الصولد السياسي في تحالفه مع دمشق عندما وقف عند التقاطع الأخطر في اشتباك المصالح الأميركية ــــــ الإسرائيلية ــــــ السورية ــــــ الإيرانية.
أما جنبلاط فلم يكن الصولد إلا جزءاً من تاريخ بيته. لعب كمال جنبلاط الصولد، الأول والاستثنائي في تاريخ لبنان، عندما قاد حملة إرغام الرئيس بشارة الخوري على الاستقالة ومن ثم العمل لمحاكمته على فساد عهده، ولعب الصولد في «ثورة 1958» عندما عزم على احتلال المطار فاصطدم بقائد الجيش اللواء فؤاد شهاب الذي هدّده بقمع حركته المسلحة. ولعب الصولد ــــ الأخطر والمكلف ــــ عندما اختلف مع الرئيس حافظ الأسد بعد اجتماع الساعات التسع الطوال والمتوترة في 21 آذار 1976 وخرج من عنده ليشنّ حرباً على «الأقلية العلوية الحاكمة» في سوريا، وعلى محاولة الجيش السوري الدخول إلى لبنان، إلى أن اغتيل في مثل ذلك الشهر من السنة التالية. كذلك لعب جنبلاط الابن أكثر من صولد: الأول عندما خاض «حرب الجبل» لإسقاط حكم الرئيس أمين الجميل وتأمين عودة الجيش السوري إلى لبنان عام 1983، والثاني عندما خرج على تحالفه مع دمشق في تشرين الثاني 2000 عبر مطالبته بإعادة انتشار الجيش السوري في لبنان وتقليل تدخّل دمشق في الشؤون اللبنانية، والثالث على أثر اغتيال الرئيس رفيق الحريري عندما خاض معركة إخراج الجيش السوري نهائياً من لبنان. وها هو اليوم يلعب الرابع والأخطر وهو يخوض معركة إسقاط خصميه الأكثر اتصالاً بتقاطع المصالح الإقليمية والدولية: نظام الرئيس السوري بشار الأسد و«حزب الله». ومن ذلك يُفهم لغز إصراره على المحكمة الدولية وعلى الضمانات الدولية لاستقلال لبنان وسيادته وحريته بعيداً من سوريا، أو في أبسط الأحوال في جوار سوريا ضعيفة.
ولعلّ التطوّر المريع الذي بلغته المواجهة بين جنبلاط و«حزب الله» أنها تكاد تلامس سلامة كل من الطائفتين حيال الأخرى.
ثالثتها، أن إسقاط حكومة السنيورة خيار نهائي للمعارضة، في معزل عن الوسائل التي يمكن أن تلجأ إليها، وعن نجاحها خصوصاً لتحقيق هذا الهدف مع السنة الجديدة كي لا تصل هذه الحكومة إلى أيلول 2007 (تاريخ بدء المهلة الدستورية لانتخاب خلف للرئيس إميل لحود)، لئلا تتسلم وكالة صلاحيات رئيس الجمهورية إذا أخفق اتفاق الغالبية والمعارضة على رئيس جديد للجمهورية. وفي هذا الإطار يُدرج اقتراح رئيس المجلس نبيه بري تأليف حكومة عشرية (3 + 3 + 4) تتولى إدارة المرحلة المقبلة توصلاً إلى الاستحقاق الرئاسي مبكراً أو في موعده الدستوري. وقد استعار بري اقتراحه هذا من تجربته وهو في الحكومة العشرية التي تألفت في 30 نيسان 1984 على النحو الذي رسمه في اقتراحه. وكان فيها ثلاثة وزراء معارضين (رئيسها الرئيس رشيد كرامي ونبيه بري ووليد جنبلاط)، وثلاثة وزراء موالين (الرئيس كميل شمعون والشيخ بيار الجميل وجوزف سكاف)، وأربعة وزراء محايدين (الرئيسان عادل عسيران وسليم الحص وعبد الله الراسي وفيكتور قصير). وتولت هذه الحكومة إعادة بناء توازن سياسي داخل السلطة وإخراج البلاد من آثار الانهيار بعد «حرب الجبل» و«انتفاضة 6 شباط» بدءاً بإلغاء عشرات من المراسيم الاشتراعية التي أعدّتها حكومة الرئيس شفيق الوزان في عهد الجميل وتشكيلات أمنية من بينها آنذاك، في حزيران ذلك العام، تعيين العميد ميشال عون قائداً للجيش. كانت حكومة 1984 استثنائية بعد انقلاب معارضي الجميل على السلطة المركزية وإسقاطهم إياها بتحالفهم مع الجيش السوري.
تالياً، إلى أهمية المغازي التي يريدها بري من حكومة الـ10 الجديدة، فهو يأمل أن تكون حكومة أقطاب واستثنائية لتصويب توازن سياسي لا يكون فيه ثمة ثلثان مقرران لأحد، ولا ثلث معطل لأحد آخر. ويعني ذلك أن الوزراء الـ4 المحايدين هم الذين يمسكون بالثلث المعطّل الذي لا ينحاز إلى فريق دون آخر، ولا ينقلب على نفسه.
ولكن من أين يؤتى بهولاء القديسين؟
هذا إذا كان اتفاق الطائف يسمح بحكومة الـ10.
والجواب: بالتأكيد لا.