جان عزيز
ثمة نقطة أخيرة ــ أو أولى ــ لم يذكرها بيان مجلس المطارنة أمس، مع أن العارفين بلغة بكركي، وزوارها المسائيين، يؤكدون أن النقطة المضمرة، تكاد تشكل السبب الرئيسي والدافع الأول للتغيير الواضح في لهجة النقاط المعلنة. إذ بعد الأسابيع الثلاثة الماضية، ونتيجة بروز ملفات كبيرة ثلاثة، طرح في بكركي من قبل أكثر من زائر وموضع ثقة، السؤال: ماذا سيبقي نهج الأكثرية من نظام توافق «الطائف»، ومن موقع الرئاسة فيه وصلاحياته؟
وزير سابق من طارحي السؤال يبدأ حديثه بالقول: لننس إميل لحود، ولنسلم بضرورة رحيله في أسرع وقت ممكن، لكن ماذا يفعل الآخرون في هذا الوقت الرئاسي المضاف والمستقطع، الذي يتحملون هم مسؤولية إقراره واستمراره حتى اللحظة؟
ويفتح الوزير القانوني سجل القضايا الثلاث موضع السؤال: توقيع رئيس الجمهورية للمراسيم، المعاهدات الدولية، وجدول اعمال مجلس الوزراء.
ويفتح معها «كتاب» الدستور على فصله الرابع، ليلاحظ قبل التفصيل عنواناً: «السلطة الاجرائية ــ أولاً: رئيس الجمهورية». إذاً فالرئيس جزء من هذه السلطة، لا بل هو أولها شكلاً واعتباراً وأصولاً. ثم يقرأ المادة 54: «مقررات رئيس الجمهورية يجب أن يشترك معه في التوقيع عليها...». «يكفي هذا القدر» يقول. ثمة «مقررات» يصدرها الرئيس، وتوقيعه عليها إشعار بأنه قرر ووافق وأصدر. ومجالات هذه الصلاحية تحددها القوانين، ومنها على سبيل المثال المناقلات القضائية.
وليس صحيحاً أن توقيعه عليها شكلي، لأنه لو أراد «مؤسسو» نظامنا الدستوري ذلك، لجعلوا منطوق هذه المادة مماثلاً لما أوردته المادتان 56 و57، من إمكان صدور مرسوم أو قانون من دون توقيع رئيس الجمهورية، في حالة الرد وإعادة الإقرار، وضمن المهل التي تفصلها المادتان المذكورتان. بينما المادة 54 لم تنص على الآلية نفسها، بل اكدت على صلاحية «التوقيع» وصفة «المقررات». فجأة تأتي الأكثرية الحالية، بالتهويل الإعلامي والسياسي والدولي وحتى الأمني، لتفرض خرقاً للدستور، عبر محاولة انتزاع مرسوم المناقلات القضائية، أو انتزاع «توقيع» الرئيس عليه.
ويعود الوزير المستقل الى المادة 52: «يتولى رئيس الجمهورية المفاوضة في عقد المعاهدات الدولية وابرامها...» يكفي أيضاً. فما هي مسودة المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، إن لم تكن معاهدة دولية؟ والا فليخرجوها بقرار من مجلس الأمن تحت أحكام الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، ولينتهوا. لكن في خلاف هذا الاحتمال، إنها معاهدة دولية، يبدأ التفاوض في شأنها مع رئيس الجمهورية حصراً. أصلاً ها هو قرار مجلس شورى الدولة القاضي برد مراجعة جميل السيد في البروتوكول الموقع بين الحكومة اللبنانية والأمم المتحدة في حزيران 2005، حول عمل لجنة التحقيق، يفتي بأن البرتوكول المذكور يتمتع بصفة «معاهدة دولية»، فكيف للمحكمة بنظامها وقيامها وآلياتها، ألا تكون معاهدة؟
لكن الأكثرية تقول إن الأمر أقر في الحكومة وعلى طاولة الحوار، وحصل مرة واحدة على الأقل في حضور لحود؟ يجيب الوزير: اعود لأؤكد، فلننس لحود، الموضوع المطروح: ماذا يبقى من النظام؟ لنسلم ان لحود أخطأ، هل نشرع الخطأ ونجعله القاعدة؟
وينتقل الى الفقرة 6 من المادة 64، حول صلاحيات رئيس مجلس الوزراء: «يدعو مجلس الوزراء الى الانعقاد ويضع جدول اعماله، ويطلع رئيس الجمهورية والوزراء مسبقاً على المواضيع...».
ماذا تعني هذه الـ«يطلع»؟ مجرد لائحة عناوين، كتلك التي تنشر في الصحف؟ معيب هذا الكلام. ثم ماذا لو كان الموضوع غير مكتمل أو ملتبساً أو ملغوماً، كما حال الهيئة الناظمة للاتصالات، موضوع ازمة جلسة اليوم، هل يكتفي رئيس الجمهورية بقراءة عنوان الموضوع ويبصم؟
يقفل القارئ الوزير «الكتاب»، ويسأل: ماذا يبقى من رئاسة الجمهورية اذا ما انتزعت هذه الصلاحيات الثلاث، توقيع المرسوم عبر فرض المناقلات القضائية، والمفاوضة لإبرام المعاهدات الدولية عبر هذا الشكل من امرار المحاكمة الدولية، وجدول اعمال مجلس الوزراء عبر تقطيع الهيئة الناظمة لضمان تعيين شخص محسوب على الأكثرية؟ ويكشف الوزير السابق نفسه ان في ادراج بكركي عدداً كبيراً من الاقتراحات المارونية، لنظام سياسي دستوري جديد، ليس الا نظام «الطائف» نفسه، مع تعديل بسيط: تبادل الرئاسات، او على الاقل مداورتها. ويؤكد ان اكثر من صوت تحدث في صالون الصرح هذه الايام، عن ضرورة طرح السؤال، ولو من باب الاستنكار: اذا كان هذا تصوركم لتوازن السلطات وتعاونها، فلماذا لا نتفق اذن على التبادل او المداورة؟
لكن أليست سلة القضايا المذكورة كلها مرتبطة بوجود اميل لحود في قصر بعبدا، وبطريقة وجوده هناك واستمراره خرقاً للدستور؟ يجيب الوزير نفسه: وهل المسيحيون هم من يتحملون مسؤولية هذا الوجود؟ وهل هم من اختار استمراره؟ والاهم الاهم، من يضمن ان الاداء الدستوري الحالي، لا يتحول اعرافاً جديدة خارجة عن الدستور وخارقة للميثاق، بعد رحيل لحود، بما يفسر عدم انزعاج الأكثرية من بقاء لحود بالذات؟
لننس اميل لحود، يختم الوزير القارئ، ولننظر الى مقتضيات الميثاق، وليتذكر كل منهم ثوابته والمبادئ، بعيداً عن الكيديات، صيف العام 1991، حاول الياس الهراوي، رحمه الله، وهو الرئيس المعيّن من السلطة نفسها التي عيّنت لحود، تغيير حكومة عمر كرامي، ذهب الى دمشق ساعياً، قبل ان يقطع عليه الطريق حسين الحسيني، يومها خرج احد الاقطاب المعارضين الحاليين على الإعلام، حاملاً الدستور، سائلاً عن معاني كلمات «رئيس الدولة ورمز وحدة الوطن»، و«القائد الاعلى للقوات المسلحة»، و«عندما يقبض رئيس الجمهورية على ازمة الحكومة»، وسواها من مضامين الدستور «الرئاسية»، فهل تغير الكتاب، ام الاقطاب، ام الحساب؟