بسام القنطار
على مقربة من الساحل اللبناني في منطقة تلال عرمون المعروفة بـ «دوحة الحص» يعتكف شيخ عقل الموحدين الدروز بهجت غيث في منزله.
تعب الشيخ الذي يلتحف العباءة الزرقاء من ثقل الحمل. شعر بأن الأمانة التي تسلمها بتكليف من المرحوم الشيخ محمد أبو شقرا لخمسة عشر عاماً خلت، أصبح حملها ثقيلاً عليه، و«خصوصاً في ظل غيبوبة الأكثرية من أبناء الطائفة عما يجري».
قرر الشيخ غيث تعليق جميع مهامه في المشيخة ونشاطاته الإعلامية والزمنية والروحية وعدم تلقيه المراجعات أو توقيعه المعاملات، رافضاً عروضاً لأن يستمر في موقعه ضمن معادلة ثلاثة مشايخ عقل، وهو الذي كان دائماً مع مبدأ توحيد مشيخة العقل.
هذه المشيخة التي ستصبح برأسين عند الساعة الحادية عشرة من قبل ظهر نهار غد الأحد، عندما يبايع المجلس المذهبي الجديد لطائفة الموحدين الدروز، نعيم حسن شيخ عقل ثانياً للطائفة، بعد أن أُعلن فوزه بالتزكية منتصف الشهر الماضي، إثر تقدمه منفرداً بطلب ترشيح يتضمن توقيع ستة عشر شيخاً، يؤلفون مجموع الهيئة الدينية الفائزة أيضاً بالتزكية في انتخابات تنافس فيها فريق الصف الواحد، وفي ظل مقاطعة من قبل بقية الأفرقاء على الساحة السياسية الدرزية. وإلى جانب توقيعات أعضاء الهيئة الدينية، يأتي توقيع النائب وليد جنبلاط من دون سواه من باقي النواب الحاليين والسابقين، الأعضاء حكماً في المجلس المذكور، في دلالة سياسية هامة على التزكية الجنبلاطية للشيخ حسن. وكان النائب والوزير السابق طلال ارسلان قد سبق جنبلاط بتسمية الشيخ ناصر الدين الغريب شيخ عقل للدروز، وشكّلت هذه البيعة من قبل الطرفين حدثاً أعاد الدروز إلى الواقع السياسي الطائفي الذي ساد في الستينيات، حيث كان لكل فريق شيخه.
يشبّه الشيخ غيث ما حصل معه «بالذي حصل مع سقراط في أثينا، ولم يُعرَف إذا كانت أثينا هي التي حكمت على سقراط، أو سقراط هو الذي حكم على أثينا. فسقراط شرِب السم ساخراً، لكنّ للسماء منطقاً عجيباً، إذ بعد سقراط لم تعد أثينا أثينا، وهوت عدالة التاريخ وأصبح مقسوماً إلى ما قبل سقراط وما بعده».
يردد الشيخ غيث في مجالسه هذه الأيام أبياتاً شعرية لأبي العلاء المعري يقول فيها :
يرتجي النـاس أن يقوم إمـام/ناطق في الكتيبة الخرساء، كذب الظن لا إمام سوى العقل/مشيراً في صبحه والمساء، إنــما هذه المذاهب كلها/ سبل لجلب الدنيا إلى الرؤسـاء
الدروز، بحسب توصيف غيث، «كتيبة خرساء، والأئمة الذين ينطقون فيها لا يحكمون العقل ولا يقولون كلمة حق، فالحق عملة مهجورة لا ينطق بها أحد».
يؤمن غيث بأن «مشيخة العقل ليست وظيفة، وإن كانت الزعامات قد نجحت في انتزاع المفاهيم المادية للمقام، فلن تستطيع انتزاع المفهوم الروحي، فهو كالمحفة التي ظن الجميع أنهم يحملونها، فبقيت تسير بعد أن تركوها. فالأمانة المعنوية في عهدتنا، ولقد آثرنا أن نخلي دار الطائفة الدرزية، تفادياً لفتنة قد تقع أو لمكيدة يخطط لها».
يقول غيث: «أنا لست نادماً على التجربة، على العكس، أنا إنسان عقلاني أؤمن بأن الإنسان يجب أن لا يندم على شيء، ويأخذ عبرة من الذي حصل معه. إن الإنسان الذي يحكم عقله ويتعاطى بواقعية مع الأشياء، لا يمكن أن ينظر إلى ما يحصل معه من أشياء على أنها سيئة». ويتابع: «إذا أردت أن أقيّم الزعماء الدروز تقييماً عقلانياً توحيدياً، أقول: سبحان من أرضى الناس بعقولها، هم تخيلوا أن هذه الخطوة هي في مصلحتهم، سواء هذا الزعيم أو ذاك، لو لم يتصور كل واحد منهم أن هذه هي مصلحته، لما أقدم عليها، ولكن أنا أيضاً أعرف مصلحتي، أنا أخذت Break هلق... أريد أن أرتاح، لقد استنسخوا مشيخة عقل لكل منهما، فارغة من أي معنوية أو كرامة لائقة بهذا المقام الرفيع، سواء بالانتخاب الصوَري بموجب القانون المزعوم، أو بالتعيين القبائلي المزري».
يرفض غيث فكرة التكريم الذي سوّقها البعض لتكون بمثابة حفل تسليم وتسلم بينه وبين الشيخ نعيم حسن في دار الطائفة الدرزية في بيروت. ويعلق على هذه الشائعة بالقول: «مبادرة مشكورة، ولكن أنا لا أريد التكريم من أحد، لقد قررت عدم المشاركة في أي فصل من هذه المسرحية المأساة، والصراع المدمر لكرامة الطائفة وسمعتها. ولأنني لم أعتد الرضوخ والركوع إلا لعزته تعالى، ولا نرضى للموحدين الشرفاء والمشايخ الأجلاء الأوفياء إلا مواقف العز والكرامة اللائقة بهم وبمبادئهم الشريفة». أنا لم استقل، بل اتخذت قراراً بتعليق جميع مهام المشيخة وعدم تلقي المراجعات وتوقيع المعاملات حتى إشعار آخر».
يرسم الشيخ غيث صورة قاتمة للعالم وفق رؤية تصوفية دينية توحيدية، لا يعرف مكامنها إلا السالكون طريق الحق والعرفان. يؤكد غيث أن العالم سينقسم إلى قسمين بكل طوائفه ومذاهبه وأممه وشعوبه. وحتى الآن هناك فئة لا تزال في الخــــــط الرمادي، وهذه الفئة هي من أكثر الفئات التي تعاني من المشاكل.
يوضح غيث: «لو أردنا أن نطبق هذه الفكرة الميثولوجية على الحياة السياسية اللبنانية، لوجدنا الرئيس بري تعباً جداً هذه الأيام، لأنه ماشي هون وهون...»، يضحك قبل أن يكمل الإجابة «أنا أرى أن الطبقة السياسية اللبنانية سائرة في طبع العناد، والعناد هو طبع إبليس، والغرائز هي الطاغية. هذه الطبقة السياسية هي «شراشيب» في خرج الأجنبي... يرددون اسم لبنان في خطاباتهم، ولكنهم نكبة لبنان الحقيقية. لبنان في حاجة إلى انقلاب في المفاهيم، وهذا سيحصل، ولكنهم الآن في منتصف النفق الأسود، وسيصلون إلى كارثة، كراسيهم ستتحطم وزعامتهم ستصبح فارغة».
يهوى غيث الأمثلة والقصص الريفية والزراعة، المهنة الأحب إلى قلبه، والتي يمارسها باستمرار في «نيحا» القرية الشوفية الجبلية. يشبه غيث النظام السياسي اللبناني بـ«شلقة كبيرة»، لذلك لا يمكن بناؤه فوراً، هو في حاجة إلى نبش وتنظيف قبل «العمار» من جديد.